الاثنين، 18 سبتمبر 2017

"فتاة البحيرة " قصة للفتيان بقلم : طلال حسن



فتاة البحيرة
قصة للفتيان
بقلم : طلال حسن
     " 1 "
ــــــــــــــــــــ
    منذ أن تفتحت عيونهم على الدنيا ، وهما معاً لا يفترقان ، فكوخ أهل جوين في القرية ، يقع قرب كوخ أهل تيلفريتش . 
وحين بلغ جوين ، التاسعة من عمره ، راح يرعى بقرات أهله الثلاث ، ومعه راحت تيلفريتش ترعى بقرتي أهلها ، حين بلغت السابعة من العمر .
وكبرا معاً ، جوين وتيلفريتش ، وهما يرعيا أبقار أهلهما ، في المرعى المعشب ، قرب البحيرة ، حتى صارا شابين ممتلئين بالحيوية والعنفوان .
وكما كانا يتبادلان الطعام ، الذي كانا يأتيان به من أهلهما ، كلّ يوم ، كانا يتبادلان الحديث في شتى المواضيع ، وحتى عندما كانا يصمتان ، فإن مشاعرهما وعواطفهما المشتركة ، لم تكن لتصمت .
وذات يوم ، جاء جوين ببقراته الثلاث إلى المرعى ، قبل أن تأتي تيلفريتش ، وجلس ينتظرها بصبر نافد ، فوق مرتفع ، يطل على البحيرة ، فيومه لا يطيب ـ لا يدري لماذا ـ إلا إذا كانت تيلفريتش ترعى بقرتيها على مقربة من أبقاره الثلاث .
وحانت منه نظرة ، عن غير عمد ، إلى البحيرة ، وكانت هادئة ساكنة صافية كالمرآة ، وفجأة رأى فتاة شابة ، تبدو في عمر تيلفريتش ، تسرح شعرها الذهبي ، متخذة البحيرة الصافية مرآة لها .
وهنا تناهى إليه صوت تيلفريتش ، تنادي من بعيد ، : جوين .
وعلى الفور ، اختفت فتاة البحيرة ، وكأن الأعماق انشقت وابتلعتها ، ووصلت تيلفريتش إليه ، وقالت : ناديتك ، يا جوين ، ولم ترد ، ما الأمر ؟
لم يردّ جوين عليها ، فحدقت تيلفريتش فيه مستغربة ، وقالت : جوين ..
ونظر جوين إليها ، وقال : قبل أن تأتي ، رأيت فتاة في عمركِ ، تقف وسط البحيرة تسرح شعرها ، شعرها ذهبي كشعرك ، وعيناها زرقاوان .
وضحكت تيلفريتش ، وقالت : لعل هذه الفتاة ، ذات الشعر الذهبي ، والعينين الزرقاةين ، هي أنا ، أنا تيلفريتش ، ولا أحد غيري .
ولاذ جوين بالصمت ، فأطرقت تيلفريتش ، ولاذت                    بالصمت هي الأخرى .

     " 2 "
ـــــــــــــــــــــ 
    في صباح اليوم التالي ، قاد جوين بقراته الثلاث ، في وقت مبكر ، إلى المرعى ، وجلس فوق المرتفع ، المطل على البحيرة ، وراح ينتظر فتاة البحيرة ، لعلها تظهر قبل مجيء تيلفريتش .
وخفق قلبه بشدة ، وفرح ، حين ظهرت الفتاة ، ووقفت فوق سطح البحيرة ، وهذه المرة لم تنشغل بتسريح شعرها الذهبي ، وإنما رفعت عينيها الزرقاوين ، الصافيتين كسماء الصيف ، وراحت تتطلع إليه .
ونهض جوين ، وعيناه لا تفارقان عينيها ، وهبط ببطء من المرتفع ، وتوقف عند حافة البحيرة ، وقال بصوت رقيق : عمتِ صباحاً .
لم تردّ الفتاة تحيته ، هذا صحيح ، لكنه لاحظ ، رغم بعدها عنه ، أن ملامحها الرقيقة ، راحت تشفّ وتتألق ، فأشار إلى نفسه ، وقال : أنا جوين ، اسمي جوين ، وأنتِ ، ما اسمكِ؟
وخيل لجوين ، أن الفتاة فتحت فمها ، ربما لتردّ عليه ، لكن ، في تلك اللحظة ، جاءه صوت تيلفرتيش تصيح من بعيد : جوين .
وعلى الفور ، اختفت فتاة البحيرة ، كأن مياه الأعماق انشقت وابتلعتها ، ووصلت تيلفرتيش إلى المرتفع ، وقالت : جوين ، ماذا تفعل عندك ؟
وردّ جوين بشيء من الحدة : هذه هي المرة الثانية .
ولاذت تيلفرتيش بالصمت محبطة ، فصعد جوين المنحدر ، وهو يقول : كنت أكلمها ، فتاة البحيرة ، وكادت تردّ عليّ ، حين ناديتني .
وتراجعت تيلفرتيش إلى الوراء ، وقالت : عفواً ، لن تكون هناك مرة ثالثة .
وانسحبت إلى بقرتيها ، صامتة حزينة ، وأخذتهما إلى طرف المرج ، وبقيت هناك معهما ، حتى عادت وحدها قبيل المساء إلى القرية .
واعترى جوين شعور بالحزن والندم ، ربما ظلم تيلفرتيش ، وهمّ أكثر من مرة ، أن ينهض من مكانه ، ويذهب إليها ، ويقدم لها شيئاً من الطعام ، كما يفعل كلّ يوم ، لكنه لم ينهض ، ولم يذهب إليها ، وإن داخله شعور بأنه سيندم على ذلك .
وقبيل المساء ، وبعد أن لاحظ أن تيلفرتيش قد عادت ببقرتيها إلى القرية ، نهض من مكانه ، وقاد بقراته الثلاث ، عائداً إلى القرية .

     " 3 "
ــــــــــــــــــــ  
    أوى جوين إلى فراشه ، في وقت مبكر من الليل ، وأغمض عينيه ، لعله ينام ويرتاح ، ومرت ساعات وساعات ، لكنه لم ينم .
وبدل فتاة البحيرة ، أرقته تلفرتيش ، لعلها غضبت منه ، لقد كلمها اليوم بشيء من الحدة ، وهذه أول مرة يحتد عليها ، ومن يدري ، فقد تأخذ بقرتيها غداً ، وترعى بهما بعيداً عنه .
وانقلب على جنبه ، لتفعل تلفرتيش ما تشاء ، إنها حرة ، واعتدل في فراشه ، وكان القمر يطل بدراً على القرية من بين الغيوم ، ونهض متسللاً من الكوخ ، وبدون إرادة منه ، قادته قدماه إلى المرعى ، ووقف فوق المرتفع ، المطل على البحيرة .
وبدل فتاة البحيرة ، ذات الشعر الذهبيّ ، والعينين الزرقاوين ، لاحت له تلفرتيش ، تقف فوق سطح الماء ، والقمر يطل عليها من بين الغيوم ، ماذا جرى ؟ وبهدوء استدار ، وقفل عائداً من حيث أتى .
وحين وصل القرية ، لم يتجه إلى كوخهم ، وإنما اتجه إلى كوخ تلفرتيش ، وتوقف أمام نافذتها ، ومدّ يده ، ونقر عليها برفق ثلاث نقرات .
وتناهى إليه وقع أقدام خفيفة ، ثم فُتحت النافذة ، وأطلت منها تلفرتيش ، وما إن رأته ، يقف تحت ضوء القمر ، حتى قالت مندهشة بصوت خافت : جوين .
ومال جوين عليها ، وهمس بصوت خافت : تلفرتيش ، جئتُ لأقول لكِ شيئاً .
وردت تلفرتيش بصوت خافت : جوين ، نحن في منتصف الليل .
واستطرد جوين قائلاً : غداً ، حين تأتين إلى المرعى ، لا تجلبي معك أي طعام .
وحدقت تلفرتيش فيه مندهشة ، فقال جوين : سأعدّ طعاماً بنفسي ، لي ولكِ .
وابتسمت تلفرتيش ، وقالت : أشكرك .
وهمت أن تغلق النافذة ، وهي تقول : اذهب الآن ، قبل أن يفيق أبواي .
ومدّ جوين يده ، وأمسك درفة النافذة ، وقال : لحظة ، يا تلفتيش ، لحظة .
وقالت تلفرتيش : نعم .
فتساءل جوين : هل تجيدين الطبخ ؟
ونظرت تلفرتيش إليه حائرة ، فتابع قائلاً : لا أريد للفتاة ، التي سأتزوجها ، أن لا تجيد الطبخ .
وندت حركة من داخل الكوخ ، فأغلقت تلفرتيش النافذة ، وهي تقول بصوت متهدج ، والفرحة تغرق عينيها بالدموع : اذهب ، لقد أفاق والداي .

                                     31 / 8 / 2016

  



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق