الثلاثاء، 26 سبتمبر 2017

"آن الأوان " قصة للفتيان بقلم: طلال حسن



آن الأوان
قصة للفتيان
بقلم: طلال حسن
     " 1 "
ـــــــــــــــــــ
    حضر مادوك مع خطيبته تيليري ، التي جاء بها ، قبيل المساء ، من قريتها البعيدة ، الواقعة في طرف الغابة ، حفل زواج صديقه .
وأثناء الحفل ، وفي ساعة متأخرة من الليل ، ارتفعت ضجة غريبة في الخارج ، جعلت الجميع يتوقفون مذهولين ، وتناهى صوت ، ربما لم يسمعه غير مادوك ،يهمس كما العاصفة البعيدة : آن الأوان .
وتلاشى الصوت المنذر شيئاً فشيئاً ، وعاد المحتفلون إلى الاستغراق في حفلهم ، لكن مادوك ظل واجماً ، صامتاً ، مما أقلق خطيبته تيليري ، فسألته قائلة : ما الأمر ، يا عزيزي ؟
وحاول مادوك أن يبتسم ، وهو يردّ عليها قائلاً : لا شيء .. لا شيء .
لكن الأمر ، بالنسبة لمادوك ، لم يكن أبداً " لا شيء " ، وتراءت له ، تلك الفتاة الغريبة الشكل ، الصغيرة الحجم جداً ، بمعطفها الأحمر ، التي اعترضته في الغابة عصراً ، وهو في طريقه إلى خطيبته ، وخاطبته قائلة : مادوك ، لقد آن الأوان .
وحين فرغت من كلامها ، اختفت وكأنها لم تكن ، ولا يدري لماذا تذكر خطيبته تيليري ، لعل السبب هو ملامح تلك الفتاة الغريبة ، وربما صوتها ، وتلفت حوله ، لقد اختفت الفتاة ، يا للعجب .
وبعد منتصف الليل ، أوصل مادوك خطيبته تيليري إلى بيتها ، وعرضت عليه أن يبات ليلته عندهم ، فهي غير مطمئنة إلى عودته وحده إلى البيت ، عبر الغابة الموحشة الخطرة .
فقال مادوك : أشكرك ، أمي تنتظرني ، وستقلق عليّ جداً ، إذا لم أعد إلى البيت هذه الليلة .
وودع مادوك خطيبته تيليري ، على أن يزورها صباح اليوم التالي ، لتطمئن عليه ، خاصة وأنها لم تكن مرتاحة ، لما جرى في تلك الليلة .
لم يصل مادوك إلى البيت ، حيث تنتظره أمه على أحرّ من الجمر ، لا تلك الليلة ، ولا في الأيام التالية ، وجنّ جنون الأم ، أين اختفى مادوك ؟
وانتظرت تيليري ، على قلق ، أن يزورها مادوك صباح اليوم التالي ، لكنه لم يزرها لا صباحاً ، ولا في الأيام التالية ، وكادت أن تجن ، حين علمت بأنه لم يصل إلى البيت ، وأنه اختفى تماماً .
وأرسل أهل القرية رسلاً في كلّ الاتجاهات ، لعلهم يعثرون على أثر لمادوك ، وفتشوا التلال والوديان ، وحتى الأنهار ، لكن دون جدوى .
وقصدت أمه ناسكاً عجوزاً ، يقطن في كهف خارج القرية ، لعله يطمئنها على ابنها ، لكن الناسك بدل أن يطمئنها ، قال لها ما أدمى قلبها  .
قال لها وكأنه يحكم عليها بالاعدام  : عودي إلى بيتك ، ولا تبحثي عن ابنك مادوك ، لقد استحوذت عليه روح ملعونة ، ولا أحد يدري متى يمكن أن تطلق سراحه ، هذا إذا أطلقت سراحه في يوم من الأيام .



     " 2 "
ـــــــــــــــــــ
    ودّع مادوك خطيبته تيليري ، عند باب بيتها ، على أن يلتقي بها ، صباح اليوم التالي ، دون أن يدريا ، أن هذا اللقاء لن يتم مطلقاً .
ومرت شهور وشهور ، ولم يعد مادوك من غيبته ، ويئس الجميع من عودته ، حتى أمه ، عدا خطيبته تيليري ، التي لم تيأس ، ولم تفقد الايمان قط بأنه حيّ ، وبأنه سيعود في يوم من الأيام .
وفي كلّ صباح ، عند شروق الشمس ، كانت تقف على مرتفع ، تراقب الطريق ، لعلها تراه قادماً من بعيد ، لكن دون جدوى .
ولم تكن تيليري ، مخطئة في اعتقادها بأن خطيبها مادوك كان حياً ، لكنها لم تعرف ، ولن تعرف ، حتى النهاية ، ما جرى له بعدما ودعها تلك الليلة .
فبينما كان يسير في الغابة ، والقمر يسطع بدراً من بين الأشجار ، دون أن تغيب تيليري عن باله لحظة واحدة ، سمع صوت موسيقى عذبة ، تنبعث من كهف ، لم يلحظ وجوده في تلك المنطقة من قبل .
فتوقف ليستمع ، ويتمتع بتلك الموسيقى العذبة ، وإذا به يرى في باب الكهف ، تلك الفتاة الصغيرة جداً ، التي اعترضته صباحاً في الغابة ، والتي فيها بعض ملامح خطيبته تيليري ، تلوح له قائلة : تعال .
واستجاب مادوك لتلويحتها ، دون ارادة منه ، واقترب منها ، وقال : طاب مساؤك .
وردت الفتاة عليه ، بصوت أشبه بصوت خطيبته تيليري : أهلاً ومرحباً .
وسارت أمامه داخل الكهف ، وهي تقول : أنت متعب ، تعال ارتح قليلاً .
ودخلا ما يشبه قاعة صغيرة ، جميلة ، مليئة بالآثاث الفاخرة ، وقالت : تفضل اجلس .
وجلس مادوك ، وتأمل الفتاة الصغيرة جداً ملياً ، ثم قال متردداً : أنت تشبهين خطيبتي تيليري ، ولو أنك صغيرة الحجم جداً .
وجلست الفتاة الصغيرة الحجم قبالته ، وقالت : إنني روح ، يا مادوك ..
وقال مادوك : أنت تعرفين اسمي .
واستطردت الفتاة الصغيرة الحجم قائلة : منذ فترة طويلة ، وأنا انتظرتُ شبيه جدك لأختطفه .
وابتسم مادوك ، وقال : هذا يعني أنني مُختطف الآن .
ولم تلتفت الفتاة الصغيرة الحجم إلى تعليقه ، وقالت : لقد أحببتُ جدك ذاك ، رغم أنني روح ، وقد لعنتني أمي ، وقالت إنني سأتعذب عقوداً طويلة ، إذا أصررت على حبه ، والزواج منه ، وهذا ما حدث .
وحدق مادوك فيها ، وقال : وما علاقتي أنا بما أقدم عليه جدي ذاك ؟
فردت الفتاة الصغيرة الحجم قائلة ، وهي تتأمل مادوك : أنت الوحيد ، من بين جميع أحفاده ، طوال هذه العقود ، الذي تشبهه تماماً .
ولاذت الفتاة الصغيرة الحجم بالصمت ، ثم قالت :  واللعنة هي أن أذوب وأقصر كالشمعة ، عقداً بعد عقد ، حتى أجد حفيداً من أحفاده يشبهه ، فأختطفه .

     " 3 "
ـــــــــــــــــــــ
    أفاق مادوك ، بعد أن نام فترة ، لا يعرف بالضبط مداها ، وإذا الشمس تطل عليه دافئة ، ساطعة ، من بين أغصان الأشجار الكثيفة للغابة .
وهبّ من مكانه ، متعباً ، ثقيل الجسم ، وتلفت حوله مذهولاً ، فلم يجد أثراً لا للكهف ، ولا للفتاة الصغيرة الحجم ، التي تشبه خطيبته تيليري .
وتناهى إليه وقع حوافر ثقيلة ، والتفت نحو مصدر الصوت ، ورأى حطاباً عجوزاً ، يقود حماراً محملاً بما احتطبه من أغصان الأشجار ، فأسرع إليه ، وحيّاه قائلاً : طاب صباحك ، يا عم .
وتوقف الحطاب العجوز ، وحدق فيه بعينيه العمشاوين ، وقال : طاب صباحك ، يا بنيّ .
وصمت لحظة ، دون أن يحول عينيه عنه ، ثم قال : يبدو أنك غريب عن هذه المنطقة .
فقال مادوك : لا يا عم ، أنا من قرية قريبة من هنا ، اسمها بانتاناس  .
وبدت الدهشة على ملامح الحطاب العجوز ، وقال : أنا من هذه القرية ، وأعرف أهلها جميعاً ، ويعرفونني ، أنا لم أرك فيها من قبل .
وقال مادوك : أنا أيضاً لم أرك .
ولاذ الحطاب العجوز بالصمت ، فقال مادوك : أمي هي     انغاراد ، والجميع يحبونها ويحترمونها و ..
وسحب الحطاب العجوز حماره ، ومضى مبتعداً ، وهو يقول : عفواً ، لم أسمع بك أو بأمك ، اذهب إلى القرية ، وتأكد مما تقوله ، لعلي مخطىء .
وبدل أن يتجه مادوك إلى القرية ، حيث أمه انغاراد وبيته ، ويتأكد مما قاله الحطاب العجوز ، قفل عائداً إلى بيت خطيبته تيليري .
وتباطأ في سيره متلفتاً ، وقد استبدت به الحيرة ، فالطرق ليست هي نفس الطرق ، التي سار عليها البارحة ، والأشجار ، حتى الأشجار بدت له مختلفة ، ماذا يجري ؟ هذا ما يريد أن يعرفه .
ومن بعيد ، لاح له بيت قديم ، متداعي ، يشبه بيت خطيبته تيليري ، لكنه ليس هو بالتأكيد ، مهما يكن ، فليطرق الباب ، ويتأكد .
وطرق الباب ، وانتظر ، فلم يأته ردّ ، وطرق ثانية ، ولم ينتظر هذه المرة كثيراً ، فقد تناهى إليه وقع أقدام ثقيلة ، بطيئة ، وجاءه صوت شائخ ، يكاد يشبه ـ ويا للعجب ـ صوت خطيبته تيليري : من ؟
وردّ مادوك : أنا .
وجاءه الصوت ثانية : من أنت ؟
فردّ قائلاً : أنا مادوك .
وسمع الصوت الشائخ يتمتم ، كأن صاحبته تحدث نفسها : مادوك  !
وعلى الفور ، فتح الباب ، وأطل منه وجه شائخ ، يحمل بعض ملامح خطيبته تيليري ، فشهق مادوك مصدوماً : تيليري !
وحدقت المرأة الشائخة فيه ملياً ، ثم قالت : جدة جدتي ، كانت تيليري ، وحين ولدتُ قيل لي ، إنني أحمل بعض ملامحها .
 وفغر مادوك فاه متمتماً : مستحيل .
 وتابعت المرأة الشائخة قائلة : هذه حكاية قديمة ، قديمة جداً ، تتردد في العائلة ، قيل إن خطيب جدتي مادوك ، أوصل جدتي ذات ليلة إلى هنا ، وقفل عائداً إلى بيته في قرية بانتاناس ، لكنه لم يصل إلى بيته مطلقاً ، ولم يعثر له على أثر حتى الآن .
 واستدار مادوك ببطء شديد ، ومضى مبتعداً ، في خطى مذهولة تائهة ، وهو يتمتم : أنا مادوك ، إلى أين أمضي الآن ؟ إلى أين ؟
  
                               7 / 7 / 2016


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق