الأحد، 17 سبتمبر 2017

"البجعة "قصة للفتيان بقلم : طلال حسن



البجعة
قصة للفتيان
بقلم : طلال حسن    
     " 1 "
ـــــــــــــــــــ
    عاد جوستاف إلى البيت ، قبيل المساء منقبض الصدر ، لا يدري لماذا ، وقد ازداد انقباض صدره ، حين لم يرَ في البيت ، على غير العادة ، لا زوجته سيسيلا ، ولا ابنته الصغيرة آنّا .
ودخل على أمه ، في غرفتها ، وكانت متمددة كالعادة في فراشها ، فهي امرأة عجوز مريضة ، وقال متسائلاً : أين آنّا وسيسيلا ؟
واعتدلت الأم في فراشها متأوهة ، وقالت : أخبرتني سيسيلا ، بأنها ستذهب إلى البحيرة ، وقد أخذت معها الصغيرة آنّا .
ومع غروب الشمس ، أقبلت سيسيلا متجهمة ، ومعها الصغيرة آنّا ، وألقت نظرة سريعة إلى جوستاف ، وهو يقف في الفناء ، ثم دخلت غرفتها ، دون أن تتفوه بكلمة واحدة .
وعقب العشاء ، وبعد أن أوت آنّا إلى فراشها ، رقد جوستاف في فراشه ، وإلى جانبه تمددت سيسيلا صامتة ، والقنديل يضيء غرفتهما الصغيرة .
ومن غير أن يلتفت إلى سيسيلا ، قال جوستاف بصوته الهادىء : منذ فترة طويلة ، لم تذهبي إلى الغابة والبحيرة .
وكما لو كانت تحدث نفسها ، قالت سيسيلا : صباح البارحة ، وصباح اليوم ، رأيتُ بجعتين تأتيان من بعيد ، وتحومان فوق الغابة والبحيرة .
واعتدل جوستاف في فراشه ، وقال : ابنتنا آنّا ستبلغ السابعة بعد أسابيع قليلة .
وأبعدت سيسيلا عينيها عن القنديل ، وقالت : آه ما أسرع مرور السنين .
وأغمضت عينيها ، ثم قالت : تصبح على خير .
وتمدد جوستاف في مكانه ، وردّ قائلاً بصوته الهادىء : تصبحين على خير .
لم ينم جوستاف ، وسرعان ما سمع سيسيلا تغط في النوم ، نعم ، لقد مرّت أكثر من سبع سنوات على زواجهما ، ولعله شعر مؤخراً بأنها بدأت تتآلف مع حياتها في البيت ، ولكن ها هي البجعتان ، اللتان جاءتا من حيث لا يدري ، تعيدان مخاوفه السابقة ، إلى ما كانت عليه من قبل .

     " 2 "
ــــــــــــــــــــ
    أفاق جوستاف في اليوم التالي ، وإذا سيسيلا قد أفاقت قبله ، وأراد أن يقول لها " صباح الخير " ، لكنها عاجلته بقولها : جوستاف ، خذني إلى البحيرة .
واعتدل جوستاف ، وقال : يبدو أنك رأيتِ البجعتين صباح اليوم أيضاً .
فقالت سيسيلا : نعم ، رأيتهما ، لكن في المنام ، وأشارتا لي أن تعالي .
ونهض جوستاف ، وقال : أخشى أنكِ لم تري البجعتين ، البارحة وقبل البارحة ، إلا في المنام أيضاً .
وبدل أن تردّ سيسيلا عليه ، قالت بنبرة رجاء : مهما يكن ، خذني إلى البحيرة .
ونظر جوستاف إليها ، وقال : لنفطر أولاً ، ثم نذهب إلى البحيرة ، أنا وأنتِ فقط .
وبعد أن تناولوا طعام الفطور ، أخذ جوستاف زوجته سيسلا إلى البحيرة في الغابة ، تاركاً ابنته آنّا مع جدتها العجوز في البيت .
وقبيل منتصف النهار ، وصلا البحيرة ، وتوقفت سيسيلا على الشاطىء ، تتلفت يمناً ويساراً ، ثم رفعت رأسها إلى الأعلى ، فتوقف جوستاف ، على مقربة منها ، وقال : لا أثر للبجعتين .
وهزت سيسيلا رأسها ، ثم طافت بعينيها فيما حولها ، وقالت : هنا كنّا نأتي ، أنا وأختاي ، فننزع ثيابنا الريش ، ونلهو في الماء ساعات وساعات .
وصمتت لحظات ، ثم قالت بصوت حزين : حتى كان يوم ، افتقدت فيه ثوبي الريش ، بعد أن لهونا ، ولم أعثر له على أثر ، واضطرت أختاي أن تمضيا ، وتتركاني وحيدة ، في هذا المكان .
واقترب جوستاف منها ، وقال : وجئت في الوقت المناسب ، ولففتكِ بقميصي ، وحملتكِ إلى البيت ، وها قد مرت أكثر من سبع سنوات .
وتنهدت سيسيلا متمتمة : آه .
ومدّ جوستاف يديه إليها ، وضمها إلى صدره ، وقال : آمل أنكِ كنت سعيدة ، ولو بعض الوقت ، خلال هذه السنين السبع .
ورفعت سيسيلا عينيها إليه ، وقالت : بل كنتُ سعيدة ، أمك .. وصغيرتنا .. و ..
وصمتت سيسيلا ، فقال جوستاف : وأنا ؟
فردت سيسيلا ، وهي تنسل من بين ذراعيه : وأنت .
وسارت سيسيلا بضع خطوات ، وهي تقول ، كأنما تحدث نفسها : لو أعرف فقط ، كيف اختفى ثوبي الريش ، ومن أخفاه ، آه .

     " 3 "
ــــــــــــــــــ
    قبيل منتصف النهار ، في اليوم التالي ، فوجئت سيسيلا ، وهي تجلس في فناء البيت ، بجوستاف يتقدم منها ، ويضع أمامها الثوب المنسوج من الريش .
وحدقت سيسيلا في الثوب ، وقد اتسعت عيناها ، واعتراها الذهول ، وتمتمت : جوستاف  !
فتراجع جوستاف قليلاً ، وقال : ثوبك .
ورفعت سيسيلا عينيها إليه ، وقالت : لم يخطر لي .. أن الثوب .. يمكن أن يكون .. عندك . 
وصمتت سيسيلا ، ربما اختنقت بدموعها ، فقال جوستاف : من يحب يقدم على المستحيل .
وهزت سيسيلا رأسها ، وقالت : كلّ ظني ، أنني لن أرى هذا الثوب ثانية .
وقال جوستاف : حاولت أكثر من مرة ، أن أحرقه ، لأقطع عليك طريق الابتعاد عني ، لكني لم أستطع ، إنه ثوبك ، الذي جاء بكَ إليّ .
ونهضت سيسيلا ، وهي تحدق في الثوب ، ثم قالت : يبدو أنه لم يعد يلائمني ، لقد امتلأ جسمي بعض الشي ، عما كنت عليه قبل سبع سنوات .
ونظر جوستاف إليها ، وقال دون أن يبتسم : لم يتغير جسمك كثيراً ، خلال هذه المدة .
ولاذت سيسيلا بالصمت ، وهي مازالت تحدق في الثوب ، فقال جوستاف : جربيه ، هيا .
ومدت سيسيلا يديها في تردد ، وبشيء من الخوف فردت الثوب ، فقال جوستاف : جربيه ، يا سيسيلا ، وسترين أنه مازال يلائمكِ .
وبهدوء ، وتصميم ، راحت سيسيلا ترتدي الثوب ، حتى لبسته تماماً ، وفردت جناحيها مرفرفة ، وكأنها تجربهما ، وخفق قلب جوستاف ، وداخله شعور غامض بالخوف ، لكنه مع ذلك قال : انظري ، إنه مازال ملائماً لكِ .
وعلى حين غرة ، انتفضت سيسيلا ، وقد فردت جناحيها على سعتهما ، وانطلقت كالسهم إلى الأعلى ، وأسرع جوستان ، وقد مدّ يديه الملهوفتين ، محاولاً الإمساك بها ، وهو يهتف ملتاعاً : سيسيلا .
لم تلتفت سيسيلا إليه ، وواصلت طريقها إلى الأعلى ، ثمّ مالت كما الطير ، وانطلقت نحو الغابة ، وسرعان ما غابت بين الأشجار .

  


                             5 / 9 / 2016




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق