السبت، 16 سبتمبر 2017

"حورية البحر " قصة للفتيان بقلم: طلال حسن



حورية البحر
قصة للفتيان
بقلم: طلال حسن

     " 1 "
ــــــــــــــــــ
    حتى قبل أن يتزوجا ، تعاهد هانس وسيسيلا ، على الوفاء والاخلاص لبعضهما البعض ، مدى الحياة ، ومهما كانت الظروف .
وقالت سيكل وقتها : سأكون لك إلى الأبد .
وتساءل هانس مازحاً : حتى لو لم أكن موجوداً ؟
وردت سيكل بحماس : نعم ، حتى لو غبت لأي سبب من الأسباب .
وربما امعاناً في المزاح ، قال هانس : هذا ما تقوله حفيدة حواء دائماً .
وبحماس أشد ، قالت سيسيلا : بل قول وفعل ، بعكس حفدة آدم .
وبعد الزواج ، ازدادت سيكل قناعة في رأيها ، وطالما قالت لهانس ، بمناسبة أو غير مناسبة " أنت لي ، وأنا لك إلى الأبد " ، وكان ذلك يُفرح هانس ، ويزيد من تعلقه بها .
وتعكرت فرحة سيكل بعض الشي ، عندما قل لها هانس مرة ، بعد عودته من الصيد في البحر : سيكيل ، لقد رأيت اليوم .. حورية البحر .
وغالبت سيكيل عواطفها ، وردت قائلة : حورية البحر خرافة ، هذا ما تقوله جدتي .
ولاحظت سيكيل بشيء من التأثر ، أن عيني هانس غابتا في البعيد ، وهو يقول : لكني رأيتها ، رأيت حورية البحر ، يا سيكيل .
ولكي لا يُعكر هانس صفو سيكيل ، لم يذكر حورية البحر أمامها مرة أخرى ، حتى إنها فكرت أن تسأله عنها ، وعما إذا كان يراها في البحر ، عندما يخرج إلى الصيد ، لكنها لم تفعل ذلك .
والحقيقة أن هانس رأى حورية البح ثانية وثالثة و ..  وحيته أكثر من مرة ، بل وحدثته عن نفسها ، وقالت له : إن أبي هو ملك البحار .
ورد هانس قائلاً : لابد أنكم تعيشون في الأعماق .
وقالت الحورية : نعم ، ولنا قصر كبير جداً ، يضاهي قصور الملوك عندكم على الأرض .
ولاذ هانس بالصمت ، فاقتربت حورية البحر منه ، وقالت : تعال ، وشاهد قصرنا .
فقال هانس : إنني متزوج .
ومالت حورية البحر عليه ، وقالت : تعال وسأسعدك أكثر مما تسعدك زوجتك .
لم يردّ هانس عليها ، فتراجعت الحورية سابحة إلى الوراء ، وهي تقول بصوت مغري : سآتي إليك يوماً ، وسآخذك إلى قصر الأعماق .

     " 2 "
ــــــــــــــــــ
    أوت سيكيل إلى فراشها ، في وقت مبكر من الليل ، وسرعان ما راحت تغط في نوم عميق ، وتمدد هانس إلى جانبها ، وحاول أن يغفو ، لعله ينال قسطاً من الراحة ، لكن دون جدوى .
وتراءت له حورية البحر ، تحوم حول قاربه وسط البحر ، وقطرات الماء تتلامع فوق وجهها ، تحت أشعة الشمس ، وقالت : سآتي ، وآخذك .
وانتبه إلى الباب ، يُدفع برفق ، والتفت ببطء ، وعيناه ترتعشان ، وعلى ضوء القنديل الخافت ، رأى ذراعاً تمتد نحوه ، والماء يقطر منها ، فاقترب من زوجته ، كأنه يحتمي بها من الذراع الممدودة .
وانسحبت الذراع ببطء ، وسمع الباب يُغلق ، دون أن يصدر عنه صوت ، إنها حورية البحر ، يبدو أنها جادة ، لكنه متزوج ، وهو يحب زوجته .
وتململت سيكيل ، فمد هانس ذراعيه واحتضنها ، وكأنه يخشى أن يفقدها ، أو يخرج من حياتها ، وسرى دفء في كيانه ، وسرعان ما استغرق في النوم .
وفي ليلة اليوم التالي ، وسيكيل مستغرقة في نوم عميق ، وقد تمدد هانس إلى جانبها ، وقلبه يخفق خوفاً ، من أن يتكرر ما حدث في الليلة السابقة .
وانتفض قلبه في صدره ، إذ سمع الباب يدفع برفق ، كما في الليلة السابقة ، وكما في الليلة السابقة ، امتدّ ذراع عبر فتحة الباب ، والماء يقطر منه ، وأشارت له إحدى أصابع كفها ، أن تعال .
وهذه المرة ، لم يقترب هانس من زوجته ، التي تغط إلى جانبه ، ولم يحتمي بها ، وإنما مدّ ذراعه إلى الذراع  الممتدة ، وكالمسحور وضع أصابعه بين أصابعها ، التي كان يقطر منها الماء .
وعلى الفور ، شعر بالذراع الممتدة عبر الباب ، تسحبه برفق من الفراش ، وتأخذه إلى الخارج ، وشعر بها تسير به في الظلام ، حتى انتهى إلى البحر .

     " 3 "
ـــــــــــــــــ
وفي اليوم التالي ، أفاقت سيكيل مبكرة ، ومدت ذراعها الدافئة ، إلى حيث ينام هانس ، وفتحت عينيها متكاسلة ، لم يكن هانس في مكانه ، وتذكرت أنه أخبرها البارحة ، بأنه لن يذهب اليوم إلى البحر للصيد ، فما الذي أيقظه ، وجعله يغادر فراشه ؟
وفكرت ، وهي تتقلب في فراشها الدافىء ، بأنه ربما خرج من الكوخ ، ليشاهد الشمس ، وهي تشرق من وراء الجبال البعيدة .
آه هانس ، إنه مازال يحمل مشاعر الشاب الفتيّ العاشق ، رغم مرور أكثر من سنة عل زواجهما ، لكن ها هي الشمس تشرق ، وترتفع ببطء في السماء ، دون أن يعود هانس إلى فراشه .
ونهضت سيكيل من فراشها ، وخرجت من الكوخ ، وراحت تتلفت يميناً ويساراً ، لكن دون جدوى ، ومرت الساعات والأيام والأسابيع والأشهر ، لكن لا أثر لهانس ، ترى أين مضى ؟

     "  4 "
ـــــــــــــــــــ
    مرت أشهر عديدة ، وسيكيل تبحث عن هانس ، في كلّ مكان ، دون جدوى ، لكنها لم تصدق أنه سيغيب نهائياً ، وأنها لن تراه ثانية ، وتمنت لو  يدفع الباب يوماً ، ويدخل عليها في غرفتها .
ودُفع باب البيت ، ذات مساء ،لكن الداخل لم يكن زوجها هانس ، وإنما جانر ، الذي هاجر بعيداً عنها ، قبل أكثر من سنتين ، وما إن رأته سيكيل حتى قالت مذهولة : جانر ! أهذا أنتَ ؟
واقترب جانر منها ، وقال بصوت حزين : طاب مساؤكِ ، يا سيكيل .
وردت سيكيل قائلة : لكنك ، حين هاجرت بعيداً ، قلت بأنك لن تعود .
فقال جانر بنفس صوته الهادىء الحزين : هذا ما قلته ، بعد أن رفضتني ، وتزوجتِ من هانس ، وهو في الحقيقة ، كان يستحقك .
وصمت لحظة ، ثم قال : لكني تراجعتُ عما قلته ، عندما علمت بأنك في محنة شديدة ، بعد أن اختفى هانس من حياتكِ ، بهذه الصورة الغامضة .
وأطرقت سيكيل حزينة ، دامعة العينين ، فقال جانر : جئت لأساعدك في البحث عن هانس .
ورفعت سيكيل عينيها ، ومسحت منهما الدموع ، وقالت : أشكرك ، أنت انسان طيب ، يا جانر .
ومع عودة جانر ، عاد شيء من الأمل إلى سيكيل ، من يدري ، ربما تجد هانس ، أو تعثر على أثر له بمساعدة جانر ، فهو صياد مجرب ، وله خبراته الكبيرة ، وسيبذل قصارى جهده من أجلها .
ومرت أيام وأسابيع وأشهر ، ولم يجدا هانس ، أو يعثرا على أثر له في أي مكان ، ومع مرور الوقت ، ولقرب جانر من سيكيل ، عادت إليه عواطفه القديمة ، لقد أحبها ، ومازال يحبها ، وكان يتمنى أن تكون له ، لكنها صارت لهانس ، وها هو هانس قد اختفى ، ولم يعد له أثر في أي مكان .
حتى كانت ليلة ، وكانا يجلسان جنباً إلى جنب ، قرب موقد تشتعل فيه النيران ، نظر جانر إلى سيكيل طويلاً ، ثم قال بصوت هادىء : سيكيل .
ورفعت سيكيل عينيها الحزينتين إليه ، وقلبها يخفق متوجساً ، وتابع جانرقائلاً : الأيام تمر ، والإنسان يكبر ، نحن الآن مازلنا شباباً ، لكن غداً ..
ونهضت سيكيل غاضبة ، وقالت محذرة : جانر ..
ونهض جانر بدوره ، ومال على سيكيل ، وقال : أردتكِ ومازلتُ أريدك ، كان هانس في السابق موجوداً ، لكن الآن لم يعد له وجود .
وقالت سيكيل منفعلة : أنا لهانس ، وسأبقى لهانس إلى الأبد .
ثم مدت يدها ، وأشارت إلى الباب ، وصاحت بانفعال أشد : اذهب ، لا أريد أن أراك في بيتي .

     " 5 "
ــــــــــــــــــــ   
    خلال هذه السنين الثلاث ، التي كانت فيها سيكيل تبحث عن زوجها ، في كلّ مكان دون جدوى ، كان زوجها هانس ، يعيش في قصر اللؤلؤ ، الذي بناه ملك البحار ، لابنته الأثيرة حورية البحر .
ورغم أن حورية البحر ، وفرت لهانس في قصر اللؤلؤ ، كلّ ما كان يتمناه ، وكادت تفقده بسحرها احساسه بالماضي ، إلا أن عالمه على الأرض ، كان يتراءى له أحياناً ، وبالأخص زوجته سيكيل .
وذات يوم ، وهانس وحورية البحر ،يجلسان أمام نافذة واسعة ، تطل على عالم أعماق البحر ، قالت حورية البحر : هذا العالم غاية في الجمال .
فقال هانس ، دون أن يلتفت إليها : مهما يكن ، فهو ليس أكثر جمالاً من عالم الأرض .
ونظرت حورية البحر إليه ، وقالت : اذهب غداً ، وزر قريتك وبيتك .
والتفت هانس إليها ، وكأن أحاسيسه بالماضي عادت إليه ، وتمتم : سيكيل .
ولاحت ابتسامة غامضة على شفتي حورية البحر ، وقالت : سترى زوجتك ، سيكيل .
وصمتت لحظة ، ثم قالت : لكن ستعود إليّ .  
في اليوم التالي ، بعد حلول الظلام ، أخذت حورية البحر هانس إلى الشاطىء ، وأشارت إلى أضواء تتغامز من بعيد ، وقالت : تلك قريتك ، التي غبت عنها ثلاث سنوات ، اذهب يا هانز .
وعلى ضوء القمر ، الذي كان يطل بدراً من السماء ، سار هانس حتى وصل القرية ، واتجه مباشرة إلى بيته ، وأمام باب البيت ، وفي فنائه ، رأى عشرات القرويين ، نساء ورجالاً وأطفالاً ، يغنون فرحين ، وتلفت مذهولاً ، ترى ماذا يجري ؟
وانسل هانس إلى الفناء ، عبر القرويين اللاهين ، ولم ينتبه إليه أحد ، وفوجىء بزوجته سيكيل ، تقف وسط القرويات ، وتاج العرس والأكاليل تتوج رأسها ، وإلى جانبها ، وفي زينة كاملة ، يقف جانر .
وجمد هانس في مكانه ، يتأمل سيكيل ، دون أن تنتبه إليه ، وقد غمرها الفرح ، وهي تميل على جانر ، وتتبادل الحديث والضحك معه .
وأطرق هانس رأسه ، ثم انسل إلى الخارج عبر القرويين اللاهين ، دون أن يراه أحد ، واتجه ببطء نحو البحر ، حتى غاب في الظلام .

                                  7 / 9 / 2016


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق