الثلاثاء، 12 سبتمبر 2017

"صبية الغابة " قصة للأطفال بقلم: طلال حسن



صبية الغابة
 بقلم: طلال حسن
     " 1 "
ــــــــــــــــــــ
    بعد أن أعدت الأم طعام الافطار ، همت أن تذهب إلى ابنتها بيتي ، وتوقظها من النوم ، لكنها توقفت مبتسمة ، فقد تناهى إليها تغريد ابنتها وأقبلت بيتي  من الغرفة المجاورة ، فهزت الأم رأسها ، وقالت : لقد أنجبت بلبلة بدل أن أنجب طفلة .
وأقبلت بيتي على أمها ، وأعوامها الأربعة عشر ، تطل بهجة من ملامحها ، وراحت تدور راقصة ، ومغردة ، حول أمها ، فرفعت الأم يديها إلى رأسها ، وقالت : كفى ، يا بلبلتي ، لقد دخت .
وفتحت بيتي النافذة على سعتها ، وقالت : ماما ، إنه الربيع ، دعيه يدخل بيتنا .
ومدت أمها يديها إليها ، وعانقتها بحرارة ، وقالت : بنيتي ، أنتِ الربيع .
وخلال تناولهما طعام الافطار ، تناهت إليهما من الخارج ، مأمأة العنزات الثلاث ، فقالت الأم : العنزات الثلاث يطالبننا بالطعام .
ونهضت بيتي ، وهي مازالت تلوك لقمتها ، وقالت : هذا حقها ، سآخذها اليوم إلى غابة البتولا ، العشب هناك كثير ، وسأجعلها تأكل حتى تشبع .
والتمع برق في عيني الأم ، أضاء أياماً كاد يغطيها ظلام الأيام ، وتنهدت متمتمة : البتولا .
ثم نهضت ، وأعطت بيتي سلة ، وضعت فيها أرغفة خبز ، ومغزلاً وخيوطاً من الكتان ، وقالت : بنيتي ، املئي السلة بالغزل .
ولأن بيتي ليس لها ملكة مغزل ، فقد  لفّت خيوط الكتان حول رأسها ، ثم أخذت السلة من أمها ، وهرولت تغرد فرحة ، وهي تسير خلف عنزاتها الثلاث إلى غابة أشجار البتولا .

     " 2 "
ـــــــــــــــــــ
    جلست بيتي تحت شجرة بتولا ، والعنزات الثلاث ترعى على مقربة منها ، وراحت تغزل الكتان ، وهي تغرد ، والغابة تردد صدى تغريدها .
وعند منتصف النهار ، توقفت بيتي عن النسج ، وجمعت بعض ثمار الفراولة ، وراحت تتناولها مع الخبز ، الذي أعطته لها أمها ، ثم نادت عنزاتها الثلاث ، وقدمت لكل واحدة منها قطعة من الخبز .
وعندما انتهت من غدائها ، هبت واقفة ، وانطلقت تغرد وترقص ، وأشعة الشمس تبتسم لها ، عبر الأوراق الخضراء لأشجار البتولا .
وفجأة توقفت بيتي مذهولة ، إذ رأت أمامها فتاة صغيرة في عمرها ، ذات جمال رائع ، ترتدي ملابساً بيضاء ، وشعرها الذهبيّ ينساب على كتفيها ، وفوق رأسها اكليل من أزهار الغابة . 
واقتربت الفتاة الغريبة من بيتي ، وابتسمت قائلة : رأيتك تغردين وترقصين ، يبدو أنكِ مثلي تحبين التغريد والرقص والفرح .
فهزت بيتي رأسها أن نعم ، فقالت الفتاة الغريبة : تعالي اذن نرقص ونغرد ونفرح معاً .
وعلى الفور ، وضعت الفتاة الغريبة يدها على خصر بيتي ، وراحت ترقص معها ، وهي تغرد ، وفي الأثناء صدحت موسيقى وتغريد رائعين ، ورفعت بيتي رأسها ، فرأت على الأغصان مجموعة من طيور الكروان والحسون والعنادل والقبرات .
وبعد حين ، توقفت الفتاة الغريبة ، ومعها توقفت الموسيقى ، وكما ظهرت الفتاة فجأة ، فجأة اختفت ، واختفت أيضاً جوقة الطيور المغردة .
وتلفتت بيتي حولها ، والشمس تميل إلى الغروب ، فرفعت مغزلها من على العشب ، ووضعته في السلة مع الكتان المغزول وغير المغزول ، ونادت عنزاتها الثلاث ، وقادتها عائدة بها إلى البيت .
آه لابد أن أمها ستؤنبها على تأخرها ، وكذلك لأنها لم تنتهِ من غزل الكتان ، كما اعتادت أن تفعل كلّ يوم ، وكلّ هذا بسبب الفتاة الغريبة ، وقررت أن لا تستمع إليها ، إذا رأتها مرة ثانية .

     " 3 "
ـــــــــــــــــــ
     مع غروب الشمس ، وراء الجبال البعيدة ، في ذلك اليوم ، وصلت بيتي إلى البيت ، حاملة سلتها ، وعنزاتها الثلاث تمشي متعبة أمامها ، وقد امتلأت ضروعها بالحليب .
ولمحت أمها تقف مقطبة بالباب ، ستؤنبها ، نعم ، وبشدة ، والحق معها ، فهي عادة تعود إلى البيت حوالي العصر ، وليس بعد غروب الشمس .
لكن الأم لم تُؤنبها ، وإنما أخذت العنزات الثلاث إلى الزريبة ، وحلبتها كما تفعل كلّ يوم ، ثم أعدت طعام العشاء ، وجلست مع بيتي تتناول الطعام ، دون أن تتفوه بكلمة واحدة .
وبعد العشاء ، جلستا أمام الموقد ، ونظرت الأم إلى بيتي ، وقالت : أقلقتني اليوم ، لقد تأخرتِ .
ورفعت بيتي عينيها إليها ، وقالت : قد لا تصدقينني ، إذا قلتُ لك ، سبب تأخري .
وقالت الأم ، محاولة كتمان مشاعرها : سأصدقكِ ، يا بيتي ، أخبريني عن السبب .
ولاذت بيتي بالصمت ، فقالت الأم : إنني أصغي إليكِ ، يا بنيتي ، تكلمي .
وقالت بيتي : السبب هو فتاة في عمري . .
وحدقت الأم فيها متسائلة ، مستغربة ، فتابعت بيتي قائلة : ظهرت فجأة ، ترتدي ملابس بيضاء ، وعلى رأسها اكليل من أزهار الغابة ، فرقصت معي ، وأنستني الوقت ، ثم اختفت فجأة .
واتسعت عينا الأم ، ولمع فيهما برق غريب ، أضاء أياماً منسية من الماضي ، فنهضت من مكانها ، وقالت : أنتِ متعبة ، يا بنيتي ، اذهبي إلى فراشكِ .
ونهضت بيتي ، وتمددت في فراشها ، وقبل أن تغمض عينيها ، قالت لها أمها : ابقي غداً في البيت ، أنا سأرعى العنزات الثلاث .
وأوت الأم إلى فراشها هي الأخرى ، وقبل أن تسغرق في النوم ، تراءت لها فتاة صغيرة ، غريبة ، في عمر بيتي ، ترتدي ملابس بيضاء ، وتضع على رأسها ، اكليلاً من أزهار الغابة .

     " 4 "
ـــــــــــــــــــ
    في وقت مبكر ، من صباح اليوم التالي ، وقبل الوقت الذي اعتادت بيتي ، الخروج فيه إلى المرعى  ،
أخذت الأم العنزات الثلاث ، والسلة التي لم تضع فيها سوى أرغفة الخبز ، وانطلقت على جناح السرعة ، نحو غابة البتولا .
وطوال الطريق ، كانت أيام ربيعها المبكر ، تسير معها خطوة بخطوة ، وتسبقها أحياناً بشذاها ، وأغاريدها ، ورقصاتها المليئة بالحيوية والحياة .
وذات يوم ، من أيام ذلك الربيع ، ومثلما التقت بيتي بالفتاة الغريبة ، بملابسها البيضاء ، واكليل الأزهار على رأسها ، التقت هي الأخرى بالفتاة الغريبة نفسها ، وراقصتها حتى غروب الشمس .
وعندما عادت إلى البيت ، لم تكتفِ أمها بتأنيبها ، وإنما ضربتها بالمكنسة ، آه ما أطيب ضربات تلك المكنسة ، في ذلك الربيع البعيد .
وكما في الماضي ، جلست الأم تحت شجرة البتولا ، تنتظر الفتاة الغريبة ، نعم ، إنها ليست في عمر بيتي الآن ، لكن حنينها إلى ربيعها الأول ، جعلها بيتي أخرى ، تنتظر بلهفة ، تلك الفتاة الصغيرة الغريبة ، تحت شجرة البتولا .
ستأتي إلفتاة الغريبة ، بملابسها البيضاء ، واكليل الزهر على رأسها ، فتضع يديها حول خصرها ، وترقص معها حتى غروب الشمس .
وأتى منتصف النهار ، وارتفعت الشمس فوق اشجار البتولا ، لكن الفتاة الغريبة لم تأتِ ، لا بأس ، لعلها تأتي بعد الظهر ، فالوقت مازال مبكراً ، وبينها وبين غروب الشمس ساعات كثيرة .
وتآكلت الساعات سريعاً ، ومالت الشمس للغروب ، دون أن تأتي الفتاة الغريبة ، فنهضت الأم من تحت شجرة البتولا ، ورفعت سلتها ، ثم نادت عنزاتها الثلاث ، وقفلت عائدة بهم إلى البيت .
ولاحت لها بيتي ، في أواخر أشعة الغروب ، تنترها بباب البيت ، وتراءى لها ربيعها الأول ، بيتي هي الربيع ، وسيبقى الربيع مادامت بيتي ربيعاً .
وبعد العشاء ، وهما جالستان قرب الموقد ، نظرت الأم إلى بيتي ، وقالت : بنيتي ، خذي العنزات الثلاث غداً إلى غابة البتولا ، وخذي معكِ السلة ، ولكن لا تضعي فيها سوى أرغفة من الخبز .

                         

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق