"الرجل القرش" قصة للفتيان بقلم: طلال حسن



الرجل القرش
قصة للفتيان
بقلم: طلال حسن  
     " 1 "
ــــــــــــــــــــ
    منذ صغرها ، أغرمت كالي بتناول المحار ، الذي كان أبوها ، صياد السمك الماهر ، يصطاده لها من شواطىء البحر .
وكبرت كالي ، وصاحبت أباها بين فترة وأخرى ، عند خروجه لصيد السمك في البحر ، ولم يكن يفوته أن يصطاد لها بعض المحار ، وهذا ما تعلمته منه ، وراحت تساعد أباها فيه .
وخرج أبوها وحده ، ذات يوم ، وتوغل في البحر ، حتى غاب قاربه عن الشاطىء ، وغابت الشمس ، في ذلك اليوم ، وعاد الصيادون بقواربهم من البحر ، لكن أباها لم يعد ، وسرعان ما عرفت بأنه لن يعود ، لقد فتك به أحد القروش .
لكن هذا لم يمنعها من الذهاب إلى الشاطىء ، واصطياد المحار ، فقد علمها أبوها صيد المحار ، وكذلك السباحة في البركة ، ذات المياه العذبة .
وقد انتبه الرجل القرش ، إلى الفتاة الفتية الجميلة ، كالي ، ذات البشرة البنية اللامعة ، وهي تتردد على البركة ، وتسبح فيها ، وكأنها سمكة نشيطة ، فراح يتردد هو الآخر على البركة .
وذات يوم ، أقبلت كالي على الحوض ، ووقفت كعادتها في أعلى الصخرة ، وقفزت برشاقة وخبرة إلى الماء ، ورآها الرجل القرش ، وهو عند مدخل الحوض المتصل بالبحر ، وتوقف مذهولاً .
لم يدخل الرجل القرش إلى الحوض ، بل دار حوله ، وعند الشاطىء ، تحول إلى شاب ، لا يقلّ وسامة عن كالي ، وبقي واقفاً هناك  .
وخرجت كالي من الحوض ، واتجهت إلى الشاطىء ، لتصطاد بعض المحار ، وفوجئت بشاب غريب ، وسيم ، بادي القوة ، يقف على الرمال .
وتوقفت كالي مترددة ، ثم قالت : يبدو أنك .. غريب .
فقال الشاب : نعم ، لست من هنا .
وصمت لحظة ، ثم قال : أنت وحدك على هذا الشاطىء المنعزل ، ألا تخافين ؟
وهزت كالي رأسها ، ثم قالت : إنني أحب المحار ، وآت لاصطياده من هنا .
وتقدم الشاب ، وخاض في المياه الرقراقة ، وهو يقول : تعالي ، سأساعدك في الصيد ، إذا سمحتِ .
لم تنطق كالي بكلمة ، لكنها سرعان ما راحت تصطاد المحار معه ، حتى تجمع عندها كمية كافية ، فتوقفت ، وقالت للشاب : هذا يكفي ، أشكرك .
وأخذت كالي المحار ، الذي جمعه لها الشاب ، ووقفت على الشاطىء ، فقال الشاب : تذكريني عندما تأكلين هذا المحار .
ابتسمت كالي ، وقد تورد خداها اللامعان ، لكنه لم ترد ، بل استدارت ، ومضت نحو القرية ، ولبث الشاب على الشاطىء ، ينظر إليها ، حتى غابت .

     " 2 "
ــــــــــــــــــــ
    في اليوم التالي ، ورغم شدة الريح ، قصدت كالي الحوض ، ووقفت متلفتة على الصخرة العالية ، ثم قفزت بخفة ورشاقة إلى الماء .
وحين أطلت برأسها من الماء ، فوجئت بالشاب يقف على حافة الحوض ، وعيناه الشابتان المحبتان ، تتطلعان بلهفة إليها .
وخرجت كالي من الحوض ، وقطرات الماء تتلألأ كاللؤلؤ على جسمها البنيّ اللامع ، فقال الشاب : الأمواج عالية اليوم ، يا كالي .
وابتسمت كالي ، وقالت : أنا سباحة ماهرة .
ونظرت إليه ، وقالت : أنت تعرف اسمي .
فقال الشاب : سمعت إحدى صديقاتك تناديكِ .
ثم سار أمامه باتجاه الشاطىء ، وهو يقول : تعالي نجمع بعض المحار .
ولحقت كالي به ، وسارت إلى جانبه صامتة ، وسرعان ما انهمكا في جمع المحار ، حتى توقفت كالي ، وقالت : هذا يكفي اليوم .
وخرج الشاب من الماء ، وقال : ربما لن يكفي ، لو أكلتُ معكِ .
ونظرت كالي إليه ، وهي تخرج من الماء ، وقالت : تعال إلى بيتنا ، وكل معي ، أمي سترحب بك .
ابتسم الشاب ، وقال : أشكرك .
ثم نظر إليها ، وقال بصوت هادىء : غداً نأكل معاً ، هنا على شاطىء البحر .

     " 3 "
ــــــــــــــــــــ
    على شاطىء البحر ، في اليوم التالي ، جلست كالي والشاب الغريب ، يلتهمان بشهية المحار ، الذي جمعاه معاً ، من جوف البحر ، حتى شبعا تماماً ، وضحكت كالي قائلة : لم ينتهِ المحار .
وضحك الشاب بدوره ، وقال : لقد شبعت .
ووقفت كالي ، وقالت : أنا أيضاً شبعت .
ونظرت إلى مياه الحوض العذبة الشفافة ، وقالت : لا أشهى من السباحة الآن .
وتقدمت كالي خطوات من الحوض ، وهي تقول : تعال نسبح معاً .
فردّ الشاب قائلاً : لا ، أنا متعب ، أسبحي أنت .
ولم تنتظر كالي ، أن ينتهي الشاب من كلامه ، فارتمت في الحوض ، وراحت تشق الماء العذب الشفاف ، وكأنها سمكة فتية نشيطة ، وهتف الشاب بها محذراً : كالي ، حذار من سمكة القرش .
وردت كالي ، دون أن تلتفت إليه : لا عليك ، لم أرَ سمكة قرش تدخل الحوض من قبل .
وقال الشاب ، وكأنه يحدث نفسه : رأيت سمكة قرش شرسة ، تحوم في الجوار ، قبل قليل .
ودارت كالي سابحة في الحوض ، وكأنها تستعرض مهارتها أمام الشاب ، وفجأة اختضّ الماء عند مدخل الحوض ، وهب الشاب ، وقلبه يخفق بشدة ، وصاح : كالي ، اخرجي ، إنه القرش .
وصرخت كالي مذعورة ، وسمكة القرش الشرسة ، تشق الماء بسرعة نحوها ، وقد كشرت عن أنيابها القاتلة ، وصاحت مستنجدة : النجدة .. النجدة .
وهبّ الشاب من مكانه ، وأمام أنظار كالي المصعوقة ، تحول إلى سمكة قرش ضخمة ، قطعت الطريق على سمكة القرش المهاجمة ، واشتبكت معها في معركة شرسة دامية .
وغاصت سمكتا القرش المشتبكتين إلى الأعماق ، ولم يطفُ منهما إلى سطح الماء ، غير بقع كثيرة وغزيرة وواسعة من الدماء القانية .
وهدأت مياه الحوض ، وعادت شفافة كما كانت من قبل ، ولمحت كالي ظلّ سمكة قرش ضخمة مدماة ، تصعد من الأعماق شيئاً فشيئاً ، أهي الشاب أم .. ؟
وظهرت سمكة القرش الضخمة ، فوق سطح الماء ، وقالت دون أن تنظر إلى كالي : اذهبي مطمئنة ، قتلت سمكة القرش .
وحدقت كالي في سمكة القرش الضخمة ، بعينين تغرقهما الدموع ، وقالت : تعال معي .
فاستدارت سمكة القرش الضخمة ، وراحت تشق المياه ببطء نحو الفتحة المؤدية إلى البحر ، وهي تقول بصوت حزين : وداعاً .. يا كالي .

                                29 / 6 / 2016




"الفتاة الغزالة" قصة للفتيان بقلم: طلال حسن



الفتاة  الغزالة
قصة للفتيان
بقلم: طلال حسن
     " 1 "
ــــــــــــــــــــ
    خلال غياب الأمير ، الذي سيدوم على ما يبدو ، فترة ليست قصيرة ، فزوجته مريضة ، ولابد لها من علاج مستمر في المدينة ، اعتني الخدم بالقصر ، كما لو أن الأمير وزوجته موجودان فيه .
ولم يعكر صفو الخدم ، في ذلك القصر الكبير ، سوى الضجة التي كانت تتكرر ، بعد انصرافهم للنوم ، كارتطام بعض ألأبواب ، وخاصة باب المطبخ ، وجلبة   الأواني والأباريق المختلفة .
ورغم أنني عامل في الإسطبل ، إلا أنني غالباً ما أسهر مع الخدم والخادمات في المطبخ ، أستمع إلى حكاياتهم  عن السحر والأشباح ، وهذا ما كان يخيفني أحياناً ، ويجعلني فريسة للكوابيس .
وذات ليلة شتائية باردة ، جلست بين الخدم والخادمات ، أمام الموقد ، الذي كانت ألسنة النار تتعالى فيه ، أستمع إلى الحكايات المثيرة ، لكني سرعان ما غفوت ، ثم استغرقت في نوم عميق .
وعند منتصف الليل ، أفقت على وقع حوافر فوق بلاط المطبخ ، وفتحت عينيّ على سعتهما ، يا إلهي ، أهو حلم ؟ من يدري .
وفوجئت بغزالة فتية ، تسير نحو الموقد ، ودرتُ بعينيّ الخائفتين ، في أرجاء المطبخ ، كيف دخلت هذه الغزالة ، وباب المطبخ مغلق تماماً ؟ لابد أنني أحلم .
وأمام عينيّ الخائفتين ، المذهولتين ، تحولت الغزالة إلى فتاة شابة ، نحيلة ، رقيقة ، في ملامحها مسحة من الجمال الريفي البريء .
لم أتحرك من مكاني ، ولم تلتفت الفتاة ـ الغزالة إليّ ، وإنما جلست صامتة أمام الموقد ، الذي كانت النار مازالت مشتعلة فيه .
وقبيل الفجر ، نهضت الفتاة ، وعادت غزالة فتية كما كانت ، ومضت بخطى هادئة وثابتة إلى الخارج ، رغم أن باب المطبخ كان مغلقاً .
ونهضت من مكاني ، وتنفست الصعداء ، لم أكن أحلم إذن ، وما رأيته كان حقيقة وليس وهماً ، وبقيت مستيقظاً ، حتى دبت الحياة في القصر ، وانصرف الخدم والخادمات إلى أعمالهم المعهودة .

     " 2 "
ــــــــــــــــــــ
      لم أرو ما حدث لأحد ، وأبقيته سراً بيني وبين نفسي ، ربما لأتأكد بأن ما جرى ليلة أمس ، ليس مجرد حلم ، بل حقيقة واقعة .
وفي ليلة اليوم التالي ، جلست وسط الخدم والخادمات ، أمام الموقد ، الذي كانت تتعالى في جنباته ألسنة اللهب الدافئة ، أصغي إلى حكايات الأشباح ، التي لا تُملّ ، متظاهراً بالتعب والنعاس .
ومع تقدم الليل ، بدأ الخدم والخادمات يغادرون المطبخ ، منصرفين إلى مهاجعهم ، ولبثت في مكاني متظاهراً بالنوم ، وسمعت إحدى الخادمات تقول : سيمرض هذا الفتى ، إذا بقي هنا ، كما في الليلة الماضية .
وردّ أحد الخدم عليها قائلاً : لينم هنا ، فهذا أفضل من النوم في الإسطبل ، في هذه الليلة الباردة .
وأغلق الباب ، وساد المطبخ صمت عميق ، يبدو أن الجميع قد غادروا إلى مهاجعهم ، ولم يبقَ أحد منهم ، لكني مع هذا لم أتحرك من مكاني ، أو أفتح عينيّ ، فلأبقَ هكذا وأنتظر .
لم أنتظر طويلاً ، فقد سمعت وقع أظلاف على أرضية المطبخ ، إنها هي .. الفتاة ـ الغزالة ، لا أحد يمشي هكذا غيرها .
وفتحتُ عينيّ ، نعم كانت الغزالة فعلاً ، وتوقفت وسط المطبخ ، وتحولت إلى فتاة ، كما في الليلة الماضية ، وسرعان ما جلست أمام الموقد .
ونهضت من مكاني ، ووضعت عدة قطع من الخشب في الموقد ، فارتفعت ألسنة اللهب ، وأشاعت الدفء في أرجاء المطبخ .
والتفتُ إلى الفتاة ـ الغزالة ، فنظرت إليّ ملياً ، ثم قالت بصوت مفعم بالحنين : أنت تذكرني بعامل شاب ، كان يعمل في إسطبل القصر .
وجلست إلى جانبها مبتسماً ، وقلت : أنا أيضاً أعمل في إسطبل القصر .
واستطردت الفتاة ـ الغزالة قائلة : لقد قدم لي مرة هدية ، هدية جميلة ، لم أعرف أول الأمر ، من أين أتى بها ، فطرده الأمير ، ونفاه بعيداً ، وعلمت فيما بعد ، أنه مات في بلاد الغربة .
وقبيل الفجر ، نهضت الفتاة ـ الغزالة ، وقالت : الجو بارد جداً الليلة في الخارج .
وتحولت إلى غزالة ، ومضت إلى الخارج ، عبر الباب المغلق ، وهي تقول : إلى اللقاء .

     " 3 "
ـــــــــــــــــــ
     عند حوالي منتصف النهار ، والخدم والخادمات مشغولون بأعمالهم ، تسللت إلى غرفة سيدة القصر ، وأخذت منها خلسة ، ما ظننت أن الفتاة ـ الغزالة بحاجة إليه ، وخبأته في مكان أمين من المطبخ .
وجاء الليل ، وجلست مع الخدم والخادمات أمام الموقد ، أصغي إلى أحاديثهم عن الأشباح والساحرات ، وكالعادة تظاهرت بالنوم ، حتى نعسوا جميعاً ، ومضوا الواحد بعد الآخر إلى مهاجعهم .
ونهضت من مكاني ، وغذيت نار الموقد بعدة قطع من الخشب ، قبل أن تأتي الفتاة ـ الغزالة ، وفي الوقت المحدد ، حوالي منتصف الليل ، أقبلت الغزالة عبر الباب المقفل ، وتحولت إلى فتاة ، كما في المرتين السابقتين ، وقالت مبتسمة : طاب مساؤك .
فأجبتها باشاً : طاب مساؤك ، لقد غذيت النار ، قبل أن تأتي .
ومدت الفتاة يديها الباردتين أمام الموقد ، وقالت : حقاً ، إن النار فاكهة الشتاء .
ونظرت إليها ، وقلت : وخاصة عند حضوركِ .
وجلست الفتاة ـ الغزالة أمام الموقد ، وقالت : تعال اجلس إلى جانبي .
وجلستُ إلى جانبها ، فقالت : اليوم كنت طوال الوقت متشوقة إلى رؤياك .
وغمرني سيل من الفرح ، فنظرت إليها ، وقلت : وأنا كنت متشوقاً لمجيئك ورؤيتك .
ثم ملتُ عليه ، وقلتُ فيما يشبه الهمس : أحضرت لك مفاجأة ، ستسركِ .
وتساءلت الفتاة ـ الغزالة مبتسمة : مفاجأة ! ما هي ؟ أخبرني .
وأجبتها قائلاً : ليس الآن ، عندما يحين وقت مغادرتك ، ستدفئين رغم برودة الجو .
وانهمكنا في أحاديث شتى ، لا يبدو أنها يمكن أن تنتهي ، فالحديث معها ، مهما كان موضوعه ، مريح ، شيق ، لا يُمل .
  وحوالي الفجر ، نهضت الفتاة ـ الغزالة ، وقالت : حان الوقت ، عليّ أن أذهب .
فاستمهلتها قائلاً : مهلاً ، المفاجأة .
وابتسمت الفتاة ـ الغزالة ، وقالت : آه كدتُ أنساها .
وأسرعت إلى المكان ، الذي خبأت فيه المفاجأة ، وأخرجتها بسرعة ، وأفردتها أمامها قائلاً : انظري ، البارحة قلت ، الجو بارد في الخارج ، هذا المعطف الفرو سيدفئك من البرد .
وعلى العكس مما توقعته ، لم تفرح الفتاة ـ الغزالة ، وإنما قطبت ، وقد علا الحزن محيّاها ، وقالت : هذا هو المعطف نفسه ، الذي قدمه لي عامل الإسطبل ، وكان السبب في طرده وهلاكه .
ثم استدارت نحو الباب ، وقد تحولت إلى غزالة ، ومضت إلى الخارج ، وهي تقول : وداعاً .


                                   27 / 6 / 2016