الجمعة، 11 أغسطس 2017

"الفيل المنتظر" قصة للأطفال بقلم: طلال حسن



الفيل المنتظر
قصة للأطفال
بقلم: طلال حسن

     " 1 "
ـــــــــــــــــــــ
    قالت أنثى الفيل الفتية لذكرها ، ذات ليلة ، والقمر يطل عليهما ، من فوق أشجار الغابة : يبدو أنني .. سأضع مولودي .. قريباً .
وقبل أن تنتهي من كلامها ، صاح والفرح يكاد يفقده رشده : ماذا  ! ماذا  !
وكتمت الأنثى ضحكتها ، وقالت : مولودنا .. الذي أحمله منذ    أشهر ، سأضعه .. قريبا .
منذ تلك اللحظة ، والفيل لا يهدأ ، لا في الليل ، ولا في النهار ، حتى بات لا ينام إلا قليلاً ، خوفاً على صغيره ، الذي لم يولد بعد ، من أعدائه ، وهم كثر .
وفي الدقائق القليلة ، التي يغفو فيها ، ليلاً أو نهاراً ، يرى صغيره في منامه ، يهتف به من بعيد : بابا .. النجدة .. النجدة .
فيسارع في نومه إلى نجدته ، مرة من النمر المرقط ، ومرة من الأسد المتوحش ، ومرة من الأفعى الغادرة ، ومرة من الإنسان ، آه من الإنسان .
وعند فجر اليوم ، تسلل من بين القطيع ، وأنثاه مازالت تغط في نوم عميق ، ومضى يتجول في محيط المكان ، الذي قضوا فيه ليلتهم .
وتوقف منصتاً ، وقد رفع أذنيه الكبيرتين ، إذ تناهى إليه وقع أقدام خفيفة ، إنه النمر ، هكذا فكر ، فلا أحد يتسلل في عتمة الليل مثله ، بحثاً عن الفريسة ، دون أن ينتبه أحد إليه .
وغالباً ما يوقع ، في أشد الليالي عتمة ، بغزال ، أو نسناس ، أو تبير ، أو حمار مخطط ، في انتظار صيده المنتظر ، وليده .. الفيل الصغير .
وعند الفجر ، ورغم عينيه الكليلتين ، لمح كائناً صغيراً يرقد متكوماً على الأرض ، فتوقف محدقاً فيه ، ترى ما هذا ؟ وسمع نسناسة تصرخ من شجرة قريبة : يا ويلي .. صغيري .. صغيري .
واقترب الفيل منه ، وإذا هو فعلاً نسناس صغير ، يا للأحمق الصغير ، ترى كيف تسلل من أحضان أمه ، ورقد في عرض الطريق ؟ آه لو رآه النمر ، لافترسه هو وأمه ، التي ستأتي ، وتدافع عنه  .
وفي هدوء بالغ ، مدّ الفيل خرطومه ، وحمل النسناس الصغير ، ووضعه برفق على جانب الطريق ، وتراجع قليلاً ، وعلى الفور ، نزلت النسناسة الأم ، وأخذت صغيرها بين يديها ، وعادت إلى الشجرة .
وسار الفيل ، عائداً إلى القطيع ، لعل أنثاه قد استيقظت الآن ، وربما تملكها القلق لغيابه ، وقالت في نفسها : آه ترى أين مضى ؟
ومع أشعة الشمس الأولى ، وعلى مسافة ليست بعيدة ، من المكان الذي قضوا فيه ليلتهم السابقة ، لمح أفعى ضخمة ، ملتفة على غصن ، يطل على الطريق ، فتوقف لحظة ، وقد تفجر غضبه ، وسرعان ما مدّ خرطومه ، وأمسك بالأفعى الضخمة ، وألقاها بقوة على الأرض .
وسعت الأفعى لأن تهرب منه ، وحاولت أن تزحف بعيداً رغم جراحها ، إلا أن الفيل الهائج ، انقض عليها ، وسحقها تحت قدمه الثقيلة .

     " 2 "
ــــــــــــــــــــ
    توقف الفيل عند مسافة ، ليست بعيدة عن المكان ، الذي أوى إليه قطيع الفيلة ليلة البارحة ، ورفع أذنيه الكبيرتين ، لعله يتبين ما يجري .
نعم ، هناك وقع أقدام خفيفة ، بين الأشجار الكثيفة ، هذا ليس نمراً ، فقد هدد النمر قبل قليل ، وهو مهما كان متهوراً ، فلن يجرؤ على الاقتراب من القطيع ، من أجل صغير من الصغار .
وهو أيضاً ليس أسداً ، نعم ، فهذا ليس وقع أقدام أسد ، ماذا إذن ؟ صياد ! الويل له إذا فكر في مهاجمة القطيع ، أو أحد أفراد القطيع ، لأي سبب كان .
وبرز من بين الأشجار فجأة رأس رجل ، في أواسط العمر ، يضع قبعة ، ويتلفت بحذر ، وفي يده بندقية ، أم هي عصا ؟ مهما يكن ، الويل له .
واندفع الفيل نحوه ، بجسمه الهائل الضخامة ، وقد اعتراه هياج كالجنون ، وما إن رآه الرجل ، مقبلاً نحوه كالإعصار ، حتى استدار مرعوباً ، وأطلق ساقيه للريح ، وهو يصرخ : النجدة .. النجدة .
وهنا أقبل الحارس العجوز ، ومعه كلبه الضخم ، واعترض الفيل ، وهو يقول بصوت هادىء : مهلاً ، يا صديقي ، مهلاً ، مهلاً .
وتوقف الفيل الهائج ، على مقربة من الحارس العجوز ، وعيناه المشتعلتان مازالتا تلاحقان الرجل الغريب ، الذي سقطت قبعته عن رأسه ، وتوقف على البعد ، وهو يرتجف من الخوف .
وربت الحارس العجوز ، على الفيل الذي مازال يحدق في الرجل ، وقال بصوته الهادىء : لعلك ظننت أنه صياد ، يا صديقي ، كلا ، لو كان صياداً لألقيت عليه القبض بنفسي ، وسلمته إلى الشرطة .
وهدأ الفيل قليلاً ، فتابع الحارس العجوز قائلاً : إنه سائح ، سائح يهوى الطبيعة ، والكائنات الحية ، وقد جاء برفقتي ليطلع على حياة الفيلة .
وتطلع الفيل إلى الرجل ، الذي هزّ رأسه ، وقال بصعوبة : نعم ، إنني أحب الفيلة ، لكن .. لقد أخافني هذا الفيل .
والتفت الحارس العجوز إلى الرجل ، وقال : تعال ، لا تخف ، إنه فيل مسالم .
ولبث الرجل في مكانه متردداً ، فقال له الحارس العجوز : تعال المسه ، تعال لا تخف .
وتقدم الرجل متردداً ، وفي شيء من الخوف ، مدّ يده ، ومس الفيل ، ثم قال : لنعد إلى الكوخ ، لم أعد أستطيع أن أكمل الجولة ، بعد ما جرى لي .
وقال الحارس العجوز مبتسماً : الحق معك ، لنؤجل هذه الجولة ، إلى يوم آخر .
واستدار الحارس العجوز ، وقبل أن يلحق بالرجل الغريب ، ربت على خرطوم الفيل ، وقال : سنزوركم حيث أنتم ، بعد أيام ، إلى اللقاء .

     " 3 "
ــــــــــــــــــــ
    استقبلته أنثاه ، وقد علا وجهها الحزن ، وخمن أن صحة الفيل العجوز قد تدهورت ، فتلفت حوله ، وقال : الأم الكبيرة ، لا أراها .
فردت أنثاه بصوت مفعم بالحزن : ذهبت منذ الصباح ، تبحث عن الفيل العجوز .
ولاذ الفيل بالصمت لحظة ، ثم قال بصوت يشي بتأثره : رأيته قبل يومين ، وكان متعباً وحزيناً ، وقال لي ، ربما لن تراني ثانية ، لقد حانت النهاية .
وبصوت تغرقه الدموع ، قالت أنثاه : لقد فقد أنيابه الأربعة للمرة السادسة ، ولن تكون له أنياب ، كما تعرف ، مرة أخرى .
وتنهد الفيل ، وقال : وهذا يعني أنه لن يستطيع مضغ الطعام بعد اليوم .
ونظرت أنثاه إليه ، وقالت : نعم ، سينتهي ، يا للأم الكبيرة ما أحكمها ، قالت هذه هي حياتنا ، فيل يأتي إلى الحياة ، وفيل يرحل منها .
وقال الفيل ، وهو يتطلع إلى البعيد : نعم ، هذه هي الحياة .
لم تعد الأم الكبيرة ، في ذلك اليوم ، حتى بعد أن غربت الشمس ، وحلّ الليل ، ترى أين ذهبت ؟ ومتى يمكن أن تعود ؟ هذا ما لا يعرفه أحد .
وأوى الفيل إلى جذع شجرة ، في المكان الذي اختاره القطيع لمبيته ، فأسند جسمه الضخم إليه ، وقال : اليوم كان طويلاً ، ومتعباً ، ومن يدري ، فقد يكون تعبنا يوم غد أشدّ ، لننم الآن .
واستندت أنثاه إلى شجرة ، على مقربة منه ، وقالت : نعم ، الأفضل أن ننام .
لم يرتح الفيل لنبرة صوتها ، فهي تبدو قلقة ومتعبة ، وتنهدت بحرقة ، وقالت وبعد قليل : ليت الأم الكبيرة تعود بسرعة .
لكن الأم الكبيرة ، لم تعد بسرعة ، كما تمنت أنثى الفيل ، التي كان صغيرها يتململ في أحشائها ، وتزايد قلقها وتعبها ، مع مرور الأيام ، وأخيراً عند غروب اليوم الخامس ، جاءت الأم الكبيرة متعبة ، حزينة ، وعيناها الشائختان غارقتان بالدموع .
ونظر الفيل إليها صامتاً ، حزيناً ، وكذلك أنثاه ، فقالت الأم الكبيرة بصوت واهن حزين : لن يعود فيلي الكبير ، لقد تبعته صامتة ، وهو يسير متعباً ، متعثراً ، وعلى مشارف وادي النهاية ، توقف ، وقال لي ، لقد وصلت ، عودي أنتِ ، هناك من يحتاج إليكِ .

     " 4 "
ــــــــــــــــــــ
    لم تمضِ سوى أيام قلائل ، حتى احتاجتها فعلاً الأنثى الفتية ، وكانت تنام واقفة ، مستندة إلى شجرة ، على مسافة قريبة منها ومن الفيل .
لقد أحست بألم في بطنها ، فأدركت أن صغيرها ، يريد الخروج إلى الحياة ، وماذا كانت تنتظر بلهفة ، خلال هذه الشهور ، غير هذا ؟
ومدت خرطومها في الظلام ، ولمست ذكرها ، النائم مستنداً إلى شجرة بجوارها ، وما إن فتح عينيه ، حتى أدرك الأمر ، وقال : سأنادي الأم الكبيرة ، وستأتي في الحال ، اطمئني .
وقبل أن يستدير ، ليمضي إلى الأم الكبيرة ، جاءه صوتها الأمومي الهادىء : مهلاً ، يا بنيّ ، مهلاً ، إنني هنا إلى جانبكَ .
ومدت خرطومها ، ولمست بحنان الأنثى الفتية ، وقالت : تعالي ، تعالي ، يا بنيتي .
وسارت بها في هدوء ، متجهة نحو بركة الماء القريبة ، التي طالما لجأوا إليها من الحرّ الشديد ، والحشرات المؤذية ، واستحموا بمائها العذب .
وقبل أن يصلوا البركة ، تبعتهم أنثيان مجربتان ، متقدمتان بعض الشيء في العمر ، وهمست الأولى للأنثى الفتية : اطمئني ، نحن إلى جانبكِ .
ولمستها الثانية بخرطومها في حنان ، وهمست لها : كلنا مررنا بهذه التجربة ، اطمئني ، ستكونين اليوم أماً لفيل صغير جميل .
وعند حافة البركة ، توقفت الأم الكبيرة ، وقالت للفيل : توقف أنت ، سندخل بها إلى الماء وحدها ، وهنا ستضع صغيرها بيسر وأمان .
وتوقف الفيل قلقاً ، وقال : حسن ، سأكون هنا ، قريباً منكم ، لعلكم تحتاجون إليّ .
وقالت له الأنثى الأولى ، وهي تغمز للأنثى الثانية ، : لا تقلق ، يا عزيزي ، نحن معها ، ولن نتركها حتى تصير أماً ، وتصير أنت أباً .
وابتسمت الثانية ، وقالت : لا تكن مثل ذكري ، إنه يتألم ، عندما أضع ، أكثر مني .
وفي عتمة ما قبل الفجر ، دخلوا ماء البركة ، وقد تقدمتهم الأم الكبيرة ، وهي تقود الأنثى الفتية ، وخلفهما تسير الأنثيان ، حتى غابوا تقريباً عن نظره .
وراح الفيل يذرع شاطىء البركة ، وكلما تناهى إليه أنين أنثاه متوجعة ، أو تراءى له ذلك ، لا يملك نفسه من الأنين ، لكنه مع ذلك ، لم يغفل لحظة واحدة عما يدور حوله ، سيأتي وليده اليوم ، ومن يدري ، ما الذي سيتربص به من أخطار .
الويل لمن يفكر في التربص به ، الأفعى الغادرة ، لقد سحقها ، لكن هذه ليست النهاية ، فهناك الكثير من الأفاعي ، ليكن ، فهو منتبه ، وسيسحق أية أفعى تجرؤ على الاقتراب من صغيره .
والنمر المرقط ، لقد حذره ، وهو يعرف أنه سيدفع الثمن غالياً ، إذا نسي أو تناسى هذا التحذير ، والأسد ، آه الأسد .. ، وعند منتصف النهار ، ارتفعت ضجة من البركة ، ماذا جرى ؟
وهنا جاءته الأم الكبيرة تبتسم فرحة ، وقالت له : أبشر ، يا بنيّ ، لقد أصبحت أباً .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق