السبت، 26 أغسطس 2017

"شيشرون" قصة للأطفال بقلم: طلال حسن



شيشرون

قصة للأطفال

طلال حسن

    كنتُ في المطبخ ، حين ارتفع في التلفزيون صوت امرأة ، تُلقي كلمة بمناسبة عيد المرأة ، إنه قيس ، لا أحد يرفع صوت التلفزيون هكذا ، غيره ، فهتفتُ : قيس .
 وردّ قيس : نعم ، ماما .
فصحتُ به : اخفض صوت التلفزيون .
وصاح قيس : فلتخفضه زينب ، إنني أعمل في الحديقة مع بابا .
وأسرعتُ إلى الردهة ، وإذا زينب ، تشاهد البرنامج ، وقد وضعت وجهها بين يديها ، فاتجهتُ إلى التلفزيون ، وأطفأته ، وقلتُ : كفى ، هيا إلى درسك .
واعتدلت زينب ، واحتجت قائلة : ماما ، إنني أتابع هذا البرنامج .
وفتحتُ التلفزيون ثانية ، لا من أجل زينب ، بل لأن صورة قديمة ، غائمة ، اتسعت في ذهني ، شيشرون ! وقبل أن تتضح الصورة ، انتهى البرنامج ، وأعلنت المذيعة عن برنامج جديد .
عدتُ إلى المطبخ ، وراحت يداي تعملان ، بينما حلق ذهني بعيداً . لم أنسَ شيشرون ، ولن أنسى اليوم ، الذي تعرفتُ فيه إليها . كانت تقف وحيدة ، حين دخلتُ الصف، وقد ضمت حقيبتها إلى صدرها ، فابتسمتُ لها ، وقلتُ : صباح الخير .
لم ترد شيشرون على تحيتي ، فدنوتُ منها ، وقلتُ : اسمي وداد .
واحتقن وجه شيشرون ، وتعكرت عيناها الزرقاوان ، وتمتمت بصعوبة ، وهي تشير إلى نفسها : أ  أ.. أمل .
أدركتُ لماذا لم ترد على تحيتي ، لكني تجاهلتُ تأتأتها ، وابتسمتُ بود ، وقلتُ : أهلاً بك ، إنّ صفنا جميل ، آمل أن ترتاحي معنا .
لكنّ البداية لم تكن مشجعة ، فقد جاءت معلمة التاريخ ، وكانت رغم طيبتها انفعالية ، سريعة الغضب ، وما إن رأت أمل ، حتى أشارت لها أن تنهض ، وقالت : ما اسمك ؟
ونهضت أمل ، وقد احتقن وجهها ، ولم تستطع أن تجيب، فصاحت معلمة التاريخ : هيا ، تكلمي ، ما اسمك؟
لم أتمالك نفسي ، فنهضت من مكاني ، وأنا أقول : اسمها ..أ..
وقاطعتني معلمة التاريخ قائلة : اسكتي أنتِ ، إنها ليست خرساء لتتكلمي نيابة عنها ، أجلسي .
 وإنكفأت أمل على الرحلة ، وقد غصت بدموعها ، وأدركت معلمة التاريخ خطأها ، لكنها نظرت بانزعاج إلى التلميذات ، وقالت : هيا نعد إلى الدرس .
دق الجرس ، وخرجت التلميذات من الصف ، فنهضتُ من مكاني ، وجلستُ إلى جانب أمل ، وقلتُ : أمل .
ظلت أمل منكفئة على الرحلة ، فقلتُ وأنا ألمس شعرها الذهبي : ارفعي رأسك ، يا عزيزتي ، لا داعي للحزن .
ورفعت أمل رأسها ، وبدت عيناها الزرقاوان غارقتين بالدموع ، وقالت وهي تنشج : ليتني لم أولد .
ابتسمتُ رغم تأثري ، وقلتُ : لو كان لي مثل عينيك ، لما قلتُ كلاماُ كهذا .
ومسحت أمل دموعها ، وقالت : لماذا أنا هكذا ، دون كلّ الناس ؟
وأخذتُ يدها بين يديّ ، وقلتُ : مهلاً ، يا عزيزتي ، أنت تتكلمين أفضل مني .
ونظرت أمل إليّ ، وقالت : هذه هي مشكلتي ، إنني أحياناً لا أأأ..
وضعتُ يدي فوق فمها ، وقلتُ : لديّ قطعة من الكيك ، فلنأكلها معاً .
وردت أمل قائلة : أشكرك .
فقلتُ وأنا أقدم لها نصف قطعة الكيك : تذوقي الكيك ، ثم أشكريني .
وتطلعت أمل إليّ ، وقالت : أنت طيبة .
ثم أخذت قطعة الكيك ، وتذوقتها ، وقالت : طيبة .
ابتسمتُ ، وقلت : مثلي ؟
وابتسمت أمل قائلة : أنت أأ .. أطيب .
ويبدو أنّ معلمة التاريخ ، قد حدثت معلمة اللغة العربية عن أمل ، فحين جاءت إلى الصف ، لم تقل كلمتها المعهودة : افتحن الكتاب ، بل قالت : اغلقن الكتاب ، وحدثتنا عن شيشرون ، وقالت : إنه خطيب يوناني شهير ، وكان يتأتيء في كلامه ، لكنه صار فيما بعد أعظم خطيب في عصره  .
ثم اقتربت من أمل ، وقالت : لقد رأيتُ درجاتك ، أنت تلميذة ذكية ، وأنا واثقة أنك ستتفوقين في دراستك .
ثم ابتسمت لها ، وقالت : تذكري دائماً .. شيشرون .
لم تمض ِ سوى أشهر قليلة حتى انتقلت أمل مع والديها إلى البصرة ، وانقطعت عني أخبرها ، ترى هل صارت أمل مثل شيشرون ، لماذا لا ؟ إنّ طه حسين كان بصيراً ، وبتهوفن كان أصماً ، أما هيلين كلر ، فقد كانت بصيرة وصماء وخرساء ، لكن هذا لم يمنعها من أن تصير أشهر النساء في العالم .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق