الثلاثاء، 29 أغسطس 2017

"الأسد" رواية للأطفال بقلم: طلال حسن



الأسد
رواية للأطفال
طلال حسن

     " 1 "
ــــــــــــــــــ
    قبيل الفجر ، أفاق الأسد على رائحة فريسة طازجة ، إنها زوجته اللبوة ، اصطادت له غزالة على الأغلب ، وهزّ رأسه ، الفجر لم يحلّ بعد ، لابد أنها خرجت للصيد في منتصف الليل .
وتناهى إليه وقع أقدام خفيفة ، لم يتحرك ، أو يفتح عينيه ، وشعر باللبوة تتمدد إلى جانبه ، فدمدم دون أن يفتح عينيه : الفجر لم يحلّ بعد .
فقالت اللبوة كأنها تعتذر : اصطدت غزالة ، ووضعتها خارج العرين ، لتفطر حالما تستيقظ .
وفتح الأسد عينيه ، وحدق فيها ، ثم قال : قلتُ لكِ مراراً ، لا تخرجي إلى الصيد ، قبل الفجر .
ولاذت اللبوة بالصمت ، وقد بدا عليها شيء من التأثر والحزن ، فمد يده ولامس وجهها برفق ، وقال : أنا أخاف عليكِ ، ولا أريد لك إلا الراحة .
ومالت اللبوة عليه ، وأسندت رأسها على كتفه ، وقالت بصوت دامع : جارتنا اللبوة ، التي تزوجت بعدنا وضعت ثلاثة أشبال .
وربت الأسد بيده على رأسها ، وقال مازحاً : أنا لا أريد ثلاثة أشبال ، يوقظونني قبل الفجر ، ويزعجونني طول النهار .
ولاذت اللبوة بالصمت ، والدموع تترقرق في عينيها ، فمال الأسد عليها بحنان ، وقال : أريد منكِ شبلاً واحداً ، أو لبوة تشبهكِ .

     " 2 "
ــــــــــــــــــــ
    عاد الأسد ، عند غروب الشمس ، إلى العرين ، وعلى غير العادة ، لم يجد اللبوة في انتظاره ، لا بالباب ، ولا في الداخل .
وبدل أن يتملكه الغضب لغيابها عن العرين ، حتى هذا الوقت ، فيهدد ويتوعد ، شعر بشيء من القلق ، هذه ليست عادتها ، ترى أين مضت ؟
وتناهى إليه من بعيد خوار غاضب ، فرفع رأسه ، ونظر إلى مصدر الصوت ، لابد أن قطيع الجاموس قريب ، ومن يدري ، لعل هذه الحمقاء ، أرادت أن تصطاد ..
ولاحت اللبوة قادمة ، وقد غربت الشمس ، وبدا على وجهها فرح غريب ، فتحول قلقه إلى شيء من الغضب ، وقبل أن ينفجر بها ، قالت اللبوة : تأخرت عليكَ قليلاً ، يا عزيزي .
فرد الأسد بغضب : قليلاً  ! نحن في الليل .
ومدت اللبوة يدها ، ولمست وجهه بحنان ، وهي تقول : سيطلع القمر بعد قليل ، ونجلس نتسامر ، خارج العرين ، حتى الفجر .
وأبعد الأسد يدها عن وجهه بخشونة ، وقال : أبعدي يدكِ ، يبدو أنكِ جننت .
وأبعدت اللبوة يدها قليلاً ، وقالت : نعم جننتُ ، جننت من الفرح ، وستفرح معي أنت أيضاً .
ولاذ الأسد بالصمت ، فقالت اللبوة مدارية خجلها وفرحها : كنتُ عند اللبوة العجوز ..
وخفق قلبه ، دون أن يتفوه بكلمة ، فتابعت اللبوة قائلة : إنني حامل .

     " 3 "
ـــــــــــــــــــــ
    مع الأيام ، تأكد للأسد أن لبوته حامل هذه المرة ، فبطنها راحت ترتفع شيئاً فشيئاً ، وهذا يعني أن شبله الأول على الأبواب ، وسرعان ما سيسمع صوته الحبيب يصيح : بابا .
ولاحظ مع مرور الزمن ، أنها بدأت تتعب ، وأن صيدها أصبح أقلّ ، وخامره شعور بالقلق عليها ، وعلى شبله المنتظر أيضاً .
وذات يوم ، اعترضها الأسد ، عند الفجر بباب العرين ، فقالت بصوت متعب : لابد أن أذهب للصيد ، يا عزيزي ، الشمس تكاد تشرق .
فحدق فيها مازحاً ، وقال : أيتها اللبوة ، من الأسد في هذا العرين ؟
فردت اللبوة مبتسمة : أنت قلتها ، أنا .. اللبوة .
وتساءل الأسد : وأنا ؟
فردت اللبوة قائلة : أنت الأسد طبعاً .
وقال الأسد : مادمتُ الأسد ، في هذا العرين ، فأمري يجب أن يُطاع .
وانحنت اللبوة أمامه مبتسمة ، وقالت : شبيك لبيك لبوتك بين يديك .
فقال الأسد بحزم : لن تخرجي للصيد ..
وصاحت اللبوة : ماذا !
فتابع الأسد قائلاً : ليس قبل أن تضعي الشبل .
وحاولت اللبوة أن تتملص منه ، لتخرج من العرين ، وهي تقول : لابد لنا مما نأكله .
فقال الأسد : لن نأكل بعد اليوم ، إلا مما أصطاده ، حتى يأتي الشبل .

     " 5 "
ــــــــــــــــــــ
    ذات ليلة ، وهما متمددان في العرين ، جنباً إلى جنب ، مالت اللبوة على الأسد ، وهمست له : يبدو أن الربيع قد اقترب .
والتفت الأسد إليها ، في العتمة الشفافة للعرين ، الذي تضيئه أشعة القمر ، القادم من الخارج ، وتساءل بلهفة وذهول : الربيع  !
وهزت اللبوة رأسها ، وقالت : نعم ، اقترب .
وابتسم الأسد فرحاً ، وقال : أهلاً به ، هذا الربيع الغالي المنتظر .
ونظرت اللبوة إليه ، وقالت : ولكي أتأكد من قرب قدومه ، ذهبت اليوم إلى اللبوة العجوز .
واعتدل الأسد فرحاً ، وقال : سأقدم لهذه اللبوة العجوز هدية ثمينة تستحقها .
ووضعت اللبوة يديها على بطنها متأوهة ، وقالت : وقد طمأنتني بأن الأمر سيكون سهلاً ، وبأنها ستحضر هي نفسها قدوم هذا الربيع .
ومع مجيء الربيع ، وقد حضرت اللبوة العجوز مجيئه ، واستقبلته بين يديها العجوزين الخبيرتين ، ووضعته برفق إلى جانب أمه اللبوة .
ونظرت اللبوة ، بعينين متعبتين فرحتين ، إلى الشبل الراقد جامداً بلا حراك إلى جانبها ، وقالت فرحة : سيفرح الأسد بقدومه .
وأسرعت اللبوة العجوز إلى خارج العرين ، وهي تقول : أنا من سيبشره بهذا الفرح .
وما إن رأى الأسد ، اللبوة العجوز ، وكان يتمشى قلقاً أمام العرين ، حتى توقف ، وقال متسائلاً : أخبريني ، كيف حال لبوتي ؟
فردت اللبوة العجوز مبتسمة : أبشر ، يا سيدي ، جاءتك بشبل ، وأي شبل .
وأسرع الأسد إلى العرين ، وإذا شبل صغير ، مغمض العينين ، لا حراك فيه ، يرقد إلى جانب اللبوة ، فقال مازحاً : أردتُ لبوة تشبهكِ .
فردت اللبوة فرحة : جئتك بشبل يشبهك .
وصمتت لحظة ، ثم قالت : إنه جامد ، مغمض العينين ، انفخ في منخريه ، وابعث فيه الحياة .
وانحنى الأسد على الشبل ، ونفخ في منخريه ، فتحرك الشبل ، ثم فتح عينيه ، فقالت اللبوة : ضروعي ممتلئة بالحليب ، سأرضع الشبل ، وأعتني به ، وأرعاه ليل نهار ، حتى يصير أسداً مثلك .

     " 6 "
ـــــــــــــــــــ
    رغم اهتمامها بالأسد ، ورعايتها له ، إلا أن اللبوة انصرفت في الغالب للشبل ، ترضعه ، وترعاه ، حتى تكاد لا تدعه يغيب عنها لحظة واحدة .
وخلال الشهر الأول ، لمجيء الشبل ، اعتمدت اللبوة اعتماداً كلياً على الأسد ، في توفير الطعام ، فهو يخرج ليلاً ، أو عند الفجر ، ليأتي بفريسة طازجة ، يأكلاها معاً ، ثم تنصرف لإرضاع الشبل ورعايته .
وعند نهاية الشهر الأول ، وقد نما الشبل وكبر جسمه ، إلا أنه ظلّ لصيقاً بأمه ، أم أن أمه كانت لصيقة به ؟ مهما يكن ، فقد نبه الأسد اللبوة إلى ضرورة خروج الشبل من العرين ، ولو بين فترة وأخرى .
فتتحجج اللبوة قائلة : أخاف أن يمرض ، فالجو مازال بارداً .
فيردّ الأسد متضايقاً : نحن في منتصف الربيع ، والجو في الخارج لطيف منعش .
ولاذت اللبوة بالصمت ، ثم قالت : سأخرجه بعد أيام ، حين يعتدل الجو أكثر .
وازداد الجو دفئاً ، وانتهى أي أثر لبرد الشتاء ، وذات يوم ، أخذ الأسد صغيره الشبل ، من بين يدي اللبوة ، وهو يقول : سآخذه قليلاً إلى الخارج .
واعترضته اللبوة ، وكأنها فقدت شعورها ، وقالت : كلا ، سيمرض إذا أخذته .
وأبعد الأسد يديه بالشبل عنها ، وقال : بل سيمرض ، إذا بقي دائماً داخل العرين .
وأخذه إلى الخارج ، بينما بقيت اللبوة في الداخل ، ولكن ما إن وضعه على الأرض ، حتى أسرع إلى الداخل ، وهو يصيح باكياً : ماما .
وفي الليل ، نهضت اللبوة بهدوء من جوار الشبل ، الذي كان يغط في نوم عميق ، واقتربت بهدوء من الأسد ، ومالت عليه ، وقالت : عفوً يا عزيزي ، أنت محق ، سأعالج الأمر ، وسأنجح إذا ساعدتني .


      " 7 "
ــــــــــــــــــــ   
    وطوال الأسابيع والأشهر التالية ، استطاع الأسد أن يخرج بالشبل عدة مرات ، ويتجول معه في محيط العرين ، ومعهما اللبوة ، لكن الشبل طوال هذه الجولات ، كان يسير لصق اللبوة ، لا يكاد يبتعد عنها خطوة واحدة .
واقترح الأسد ، ذات يوم ، أن يخرج مع الشبل ، ويتجولا وحدهما فقط ، ورغم أن اللبوة لم ترتح لهذا الاقتراح ، إلا أنها رضخت ، وتوقف الشبل عند باب العرين ، وصاح : ماما .
وحاولت اللبوة أن تتمالك نفسها ، وتقاوم دموعها ، وهي ترد عليه : لن تستمر جولتكما طويلاً ، يا شبلي العزيز ،  سأنتظرك هنا .
وسار الشبل إلى جانب أبيه الأسد ، وهو يتلفت حوله بين حين وآخر ، فقال الأسد : بنيّ ، أنت الآن شبل ، وستكون أسداً بعد حين  ، لا أقول عليك أن تبتعد عن أمك ، ولكن ينبغي أن تتعلم كيف تعتمد على نفسك .
وتوقف الشبل ، وصاح بصوت دامع : ماما .
وعلى الفور ، أقبلت اللبوة ، ويبدو أنها كانت تتأثرهما حيثما يسيران ، وصاحت ملهوفة : بنيّ ، لا تخف ، إنني ها إلى جانبك .
وأمام أنظار الأسد الحانقة ، اندفع الشبل باكياً إلى أمه ، فأخذته بين ذراعيها الملهوفتين ، وقالت : تعال ، يا صغيري ، سنعود حالاً إلى العرين .
وحتى بعد مرور ستة أشهر على ولادته ، وهو العمر الذي يؤهله للخروج مع أمه اللبوة ، وتعلم الصيد ، كانت اللبوة تخرج وحدها ، وتبقي الشبل في العرين ، فتأتي بما تصطاده ، فيأكل الأسد من الفريسة أولاً ، ويخرج من العرين ، ويجلس تحت الشجرة ، ثم يأكل منها الشبل حتى يشبع .
وذات يوم ، قال الأسد للبوة : إن الآخرين ينتقدوننا ، لأننا لم نعلم شبلنا حتى الآن على الصيد .
فقالت اللبوة : شبلنا مازال صغيراً .
فقال الأسد : شبلنا تجاوز السنة من العمر .
فأخذت اللبوة الشبل بين ذراعيها ، وقالت : سآخذه منذ الغد معي ، وسأعلمه الصيد .

     " 8 "
ـــــــــــــــــــــ
    على مضض ، أخذت اللبوة الشبل معها ، عند خروجها إلى الصيد نهار اليوم التالي ، ولأنها لم تشأ أن يبتعد الشبل عنها ، فإنها لم تستطع أن تصطاد شيئاً ، طوال ذلك اليوم .
وعند المساء ، عادت متعبة إلى العرين ، والشبل يسير إلى جانبها متعباً جائعاً ، حتى أنها ، حين نظرت إليه على ذلك الحال ، تمنت لو أنها لم تفطمه .
وتحت الشجرة ، على مقربة من باب العرين ، لمحت الأسد رابضاً ، وحين مرت به ، قال لها ، دون أن يلتفت إليها : تأخرتِ .
فتباطأت في سيرها لحظة ، وقالت : حاولت أن أصطاد فريسة ..
ونظر الشبل إلى أبيه الأسد ، لكنه لم يتفوه بكلمة واحدة ، ودخلا العرين ، وسرعان ما شعرا بالارتياح ، فقد رأيا على الأرض ، غزالاً لم يُمس ، فصاح الشبل : ماما ، غزال .
وهمّ أن يأكل منه ، فقد كان في جوع شديد ، لكن اللبوة اعترضته ، وقالت : لا تأكل ، يا بنيّ ، أنت شبل ، أبوك الأسد يأكل أولاً .
وخرجت اللبوة إلى الأسد ، وقالت له : يبدو أنك لم تأكل بعد ، تعال لتأكل .
ودون أن يلتفت إليها ، قال الأسد : رأيتكِ بعد منتصف النهار ، مشغولة بابنك الشبل ، ولم تصطادي شيئاً ، فاصطدتُ لكما ذلك الغزال .
ولاذت اللبوة بالصمت لحظة ، ثم قالت : تعال كل أولاً ، ولو لقمة واحدة .
فرد الأسد قائلاً : إنني شبعان ، كلا أنتما .
في اليوم التالي ، حاولت اللبوة جهدها أن تصطاد شيئاً ، وطاردت حماراً وحشياً ، وكادت أن تمسك به ، وإذا بها تسمع الشبل يصيح مستغيثاً : ماما .
وتوقفت عن مطاردة الحمار ، لابد أن الشبل في خطر ، وأسرعت إليه ، فرأت ثلاثة ضباع تحيط به ، وتوشك أن تفتك به ، فانقضت عليهم ، وخاضت معهم معركة شرسة ، كادوا خلالها أن يتغلبون عليها ، ويخطفون الشبل ، لولا أن هزّ الغابة زئير غاضب : آآآآ .
وصاح الشبل فرحاً : هذا بابا .
وجمد الضباع الثلاثة في أماكنهم ، حتى قبل أن يظهر الأسد ، وتلفتوا حولهم خائفين ، ثم لاذوا بالفرار ، لا يلوون على شيء .
وأقبل الأسد مسرعاً ، وحام في المكان ، وهو يزمجر ، ثم قال : لنعد إلى العرين .
وقالت اللبوة لاهثة : لم أصطد شيئاً بعد .
واستدار الأسد ، ومضى صوب العرين ، وهو يقول : تعالي ، اصطدتُ غزالاً .
وأطرقت اللبوة رأسها ، وسارت صامتة وراء الأسد ، والشبل يسير إلى جانبها .

     " 9 "
ــــــــــــــــــــ 
    رغم أن اللبوة تعرف ، أنها والشبل ، حين يخرجان للصيد ، قلما يغيبان عن أنظار الأسد ، إلا أنها تخبره ، بين فترة وأخرى ، بما يفعله الشبل .
قالت له مرة : كاد الشبل اليوم ، أن يصطاد غزالاً .
فقال الأسد بشيء من السخرية : كاد !
فقالت اللبوة محتجة : إنه مازال صغيراً .
فردّ الأسد قائلاً : لقد تجوز الرابعة من عمره .
وفي مرة أخرى ، قالت اللبوة للأسد : الشبل اصطاد اليوم أرنباً .
فقال الأسد : رأيته ، ذلك الأرنب ، أعرفه ، كان هرماً مريضاً .
وهذه الليلة ، وبعد أن استغرق الشبل في النوم ، تسللت اللبوة إلى الأسد  ، حيث يربض تحت الشجرة ، والقمر يطل بدراً من الأفق .
وجلست صامتة إلى جانبه ، ثم رفعت رأسها ، ونظرت إلى القمر ، وقالت : القمر يطلّ علينا ، كما في أيامنا الأولى .
فقال الأسد : القمر ليس نفس القمر .
وتنهدت اللبوة ، وقالت : القمر نفس القمر ، لكن يبدو أننا كبرنا بعض الشيء .
وصمتت اللبوة ، فقال الأسد : لا أظن أنكِ جئت لتتحدثي عن القمر .
فقالت اللبوة : نعم .
وقال الأسد : حسن .
وقالت اللبوة : الشبل اصطاد اليوم غزالاً .
وعلق الأسد قائلاً : قولي خشفاً .
فأكدت اللبوة قائلة : بل غزالاً فتياً .
وصمتت ثانية ، ثم قالت : أنت تعامله بخشونة ، وكأنه ليس الخشف ، الذي انتظرناه طويلاً .
ونهض الأسد ، ومضى إلى العرين ، وهو يقول : أريده أن يكون أسداً .

     " 10 "
ـــــــــــــــــــــ
    في هدأتِ الليل ، ربما قبيل الفجر بقليل ، ارتفع من بعيد خوار مرتفع ، ظلّ صداه يتردد ، في جميع أرجاء الغابة ، لفترة ليست قصيرة .
وانتبهت اللبوة ، وقد أفاقت من نومها ، إلى الأسد ، يتململ في مضجعه منزعجاً ، وتراءى لها قطيع الجاموس ، ينحدر متدافعاً نحو بركة الماء ، وقد أثار حوله سحابة من الغبار .
وأفاق الشبل على صوت الخوار ، فأنصت ملياً ، ثم تكور في أحضان أمه ، دون أن يتفوه بكلمة واحدة ، فقالت اللبوة ، وهي تضمه بذراعيها : القطيع بعيد جداً ، نم يا بنيّ ، ولا تخف .
ورفع الشبل رأسه قليلاً ، وقال بصوت هامس لا يكاد يُسمع : ماما .
لم تردّ اللبوة عليه ، وربتت على رأسه أن نم ، لكنه لم ينم ، وإنما همس ثانية : تذوقت لحوماً كثيرة ، إلا أنني لم أذق حتى الآن لحم الجاموس .
وردت اللبوة ، دون أن تفتح عينيها : إياكَ أن تقترب من الجاموس ، إنه خطر جداً .
فقال الشبل ، وهو يندس في أحضانها : لن أقربه الآن ، ربما في المستقبل ، حين أصير أسداً .
وربتت اللبوة ثانية على رأسه ، وقالت : نم الآن ، ستتذوق لحم الجاموس قريباً .
وتململ الأسد ثانية ، ترى هل سمع ما دار بين اللبوة والشبل ؟ وضمت اللبوة الشبل إلى صدرها ، وقالت : كفى ، يا بنيّ ، بابا نائم .
في اليوم التالي ، نهضت اللبوة قبل الفجر ، وتسللت على أطراف أصابعها إلى الخارج ، وتململ الأسد في مضجعه ، ربما شعر بخروجها ، أما الشبل فقد كان مستغرقاً في نوم عميق .
وعند شروق الشمس ، في اليوم التالي استيقظ الأسد ، على الشبل يعتدل في مكانه ، ويتلفت حوله ، لابد أنه يبحث عن اللبوة ، ففي مثل هذا الوقت ، تكون قد عادت من الخارج ، ومعها ما اصطادته .
ونهض الأسد ، دون أن يلتفت إلى الشبل ، وخرج من العرين ، ووقف تحت الشجرة ، متلفتاً حوله ، ثم رفع رأسه ، وزأر بأعلى صوته : آآآآ .
وتردد صدى زئيره في جميع أرجاء الغابة ، وانتظر هنيهات ، لكن لا رد من اللبوة ، وخرج الشبل من العرين ، ووقف منكسراً إلى جانب أبيه الأسد ، وقال بصوت متردد : لم تعد ماما .
وقفل الأسد عائداً إلى العرين ، وهو يقول : انتظر ، ستعود قريباً .
لكن اللبوة لم تعد ، حتى بعد أن انتصف النهار ، وخرج الأسد من العرين ، ومضى متوغلاً في الغابة ، وهو يقول على مسمع من الشبل : أخشى ما أخشاه ، أن تكون قد قصدت قطيع الجاموس .
ولم يكن ما يخشاه الأسد ، في غير محله ، فبعد أن بحث عن اللبوة في كلّ مكان من الغابة ، دون أن يقف لها على أثر ، وجدها أخيراً مرمية ، على مقربة من البركة ، وقد سحقتها تماماً أقدام قطيع الجاموس .

     " 11 "
ـــــــــــــــــــــــ
    انزوى الشبل ليلاً ، في المكان الذي كان يأوي إليه مع أمه اللبوة ، ولم يجرؤ ، ولو مرة واحدة ، على النظر إلى أبيه الأسد ، واستغرق في النوم هكذا ، دون أن يحظى بشيء من الطعام .
وحين استيقظ ، صباح اليوم التالي ، والشمس تطل من مدخل العرين ، لم يجد أباه الأسد في مكانه ، ونهض متثاقلاً ، وبحث عما يأكله دون جدوى .
ومضى متردداً إلى الخارج ، وتوقف تحت الشجرة ، حيث يقف أبوه الأسد دائماً ، ونظر إلى البعيد ، ورفع رأسه ، وفتح فمه ، وأراد أن يصيح : ماما .
لكنه أطبق فمه ، ولاذ بالصمت ، فأمه لن تسمعه ، وبالتالي لن تردّ عليه ، لقد رحلت ، ولن تأتيه بالطعام مرة أخرى ، مهما اشتد به الجوع ، وفكر أنها لو علمته الصيد ، لربما كان ذلك أفضل . 
وقبيل منتصف النهار ، مضى يتجول في محيط العرين ، لعله يعثر على ما يمكن أن يصطاده ، مهما يكن ، ويسكت به جزعه .
وتوقف الشبل متحفزاً ، حين رأى ثعلباً عجوزاً ، يحمل بين أسنانه أرنباً صغيراً ، من الواضح أنه اصطاده قبل قليل ، فاعترضه دون أن يخاطبه بكلمة ، وبدا أن الثعلب العجوز فوجىء ، وتملكه خوف شديد ، فقد ترك الأرنب الصغير ، ولاذ بالفرار .
وعند المساء ، عاد الأسد متعباً إلى العرين ، وأوى إلى مضجعه ، دون أن يلتفت إلى الشبل ، أو يخاطبه بكلمة واحدة ، وسرعن ما استغرق في النوم .
وفي اليوم التالي ، عندما استيقظ الشبل ، كان الأسد قد غادر العرين ، فنهض من مكانه ، وخرج من العرين ، ولم يتوقف هذه المرة تحت الشجرة ، التي يقف أبوه الأسد تحتها دائماً ، بل مضى يبحث عما يأكله ، ويسكت به جوعه .
وعند منتصف النهار ، رأى خشفاً يتجول بعيداً عن أمه ، فانقض عليه ، وأمسك به ، وكم كانت فرحته شديدة بهذا الخشف ، فهو أول صيد له .
ولم يكد يأكل بضعة لقم من صيده الأول ، حتى أقبل الضباع الثلاثة ، وأحاطوا به من كلّ جانب ، وقد كشروا عن أنيابهم الحادة القاتلة ، فتراجع خائفاً ، ثم ترك لهم الخشف ، ومضى مبتعداً .
ولمح الشبل أباه الأسد ، يستدير بين الأشجار ، ويسير لا يلوي على شيء ، آه ربما كان أبوه يراقبه ، لكنه لسبب ما ، لم يشأ أن يتدخل .

     " 12 "
ــــــــــــــــــــــ
    ذات يوم ، لمح الشبل ، وقد صار أسداً فتياً ، لبوة فتية في عمره ، ولاحظ أنها رمقته من بعيد بنظرة خاطفة ، لها دلالتها .
وصادف وجود عدد من الغزلان ، ترعى بحذر على مقربة منهما ، ولعل الشبل أراد أن يستعرض سرعته ومهارته في الصيد ، أمام اللبوة الفتية ، فطارد إحدى تلك الغزلان ، وأمسك بها .
وبالفعل كانت اللبوة الفتية تتابعه بعينيها الجميلتين ، وقد أثارت سرعته ومهارته إعجابها ، لكنه عندما أشار لها أن تشاركه الطعام قائلاً : تفضلي .
أدارت رأسها بخجل ، وقالت : أشكرك .
ومضت مبتعدة .
وقبل أن يأكل لقمة واحدة من الغزال ، أحاط به الضباع الثلاثة ، وقد كشروا عن أنيابهم القاتلة ، ورفع الشبل رأسه نحوهم ، وحدق فيهم غاضباً ، لكنه لم يتراجع ، ولم يترك لهم ما اصطاده لطعامه .
وانقضوا عليه ، وحاولوا أن ينشبوا فيه مخالبهم وأنيابهم ، لكنه كان أسرع منهم ، إذ تصدى لهم ، وأثخنهم بالجراح ، ما اضطرهم إلى التراجع والانسحاب ، وقد أصاب أحدهم إصابة قاتلة .
وفي المساء ، عاد إلى العرين متعباً ، لكنه مرتاح ، وما إن اقترب من العرين ، حتى رأى أباه الأسد ، يقف تحت الشجرة ، وأمامه على الأرض ، غزال كبير لم يُمس ، وهمّ أن يتوجه إلى الداخل ، فناداه أبوه الأسد قائلاً : بنيّ ، تعال .
وتوقف الشبل ، ثم تقدم من أبيه ، وقال : نعم ، يا أبتي .
فنظر إليه أبوه الأسد بارتياح ، وقال : رأيتُ اليوم ما فعلته بالضباع الثلاثة ، الذين أرادوا اغتصاب الغزال منك ، كما اغتصبوا سابقاً الخشف .
وصمت لحظة ، وضع خلالها يده على كتف الشبل ، وقال : أنت الآن أسد ، وهذا ما أردتك دائماً أن تكونه ، آه كم كانت أمك ستفرح لو كانت موجودة .
وجلس الأسد تحت الشجرة ، وهو يقول : دعنا نحتفل اليوم ، بصيدك وانتصارك على الضباع الثلاثة .
وجلس الشبل إلى جانب أبيه الأسد ، وراحا يتناولان طعامهما معاً ، ولم تكن اللبوة غائبة عنهما ، وظلوا تحت الشجرة ، حتى ساعة متأخرة من الليل .
بعد أيام ، عاد الأسد مساء إلى العرين ، وبدل أن يمضي إلى الداخل ، ويأوي إلى مضجعه ، جلس تحت الشجرة ، وأسند رأسه إلى جذعها .
إنه فرح ، فرح جداً اليوم ، رغم أنه يرى ، أن شبله .. أسده الفتي ، لن يعود اليوم ، وربما لن يعود في الأيام القادمة أيضاً ، إلى العرين ، فقد رآه عصراً ، يسير متبختراً على مقربة من البركة ، وإلى جانبه تسير لبوة فتية في عمره .

                                   3 / 5 / 2016

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق