الثلاثاء، 21 فبراير 2017

حول الذائقة الجمالية والفنون دراسة من إعداد : أ . يعقوب الشارونى



حول الذائقة الجمالية والفنون

دراسة من إعداد : أ . يعقوب الشارونى

* المقصود بالذائقة الجمالية

الذائقة الجمالية التى تصقلها القدرة على التذوق الجمالى ، مقصود بها الشعور بسيطرة العمل الفنى علينا سيطرة قوية . فالشعر أو التصوير أو الموسيقى عندما تستحوذ على الوعى ، لا تترك مكانًا لأى شىء آخر ، وبالتالى لا تثير أسئلة عما يكمن وراء الموضوع الجمالى ، ولا تبحث عن تفسير له . ففى                  " لحظة الاكتشاف " ، يكون للإنجاز الجمالى تأثيره المباشر والمكتمل علينا .
ذلك أن أحاسيسنا ومشاعرنا يتم الاستيلاء عليها على نحو تام ، وقد تركز انتباهنا على الموضوع الجمالى . ومنذ لحظة الاكتشاف ، نظل متعايشين مع ما سيطر على مشاعرنا ، فننتقل من لحظة استيعاب التجربة الجمالية ، إلى عملية اكتشاف جوانب تلك التجربة . ذلك أن الأحكام الجمالية تتضمن الإحساس والعاطفة والفكر ، كلها فى وقت واحد .
          ويتضح ذلك فى الأثر القوى الذى تتركه فينا " الشخصيات " التى نقابلها فى الروايات والقصص التى نطالعها ، أو " الأحداث " التى يتعرضون  لها ، كذلك المشاعر التى تثيرها المسرحيات ونحن نشاهدها ، أو الشعر والموسيقى عندما نستمع إليهما ، أو اللوحة التشكيلية عندما نتأملها . عندئذ نستمتع بالنفاذ والقوة والوضوح والدقة التى تمس وجداننا وعقلنا ، عند ذلك اللقاء المباشر بالموضوع الذى نحس أمامه  بالجمال .
          إن علم الجمال هو العلم الذى يتعامل مع خبرات الشعور                       والإحساس .. مع " تقدير الجمال " وسلامة التعبير عنه عند اتصال المشاعر المحسوسة بالفهم اليقظ المستنير للموضوع الجميل .
إن الإحساس بالجمال هو قمة سلامة العلاقة بين الإنسان والطبيعة وكل ما يحيط به . فما نطلق عليه تعبير " جميل " ، هو ما يجعل للحياة                معنى ، فنحرص عليها ونسعد بها ونرضى عنها .                  
وإذا كان المبدعون لما هو " جميل " قلة محدودة ، فإن المتذوقين يمكن أن يصل عددهم إلى كل أفراد المجمع ، وهو ما يجب أن نسعى إليه .

* لماذا يختلف الناس فى الإحساس بما هو جميل

والإنسان يتعرض فى المجتمع لكثير من المشاعر المختلفة ، وذوقه                               لا يتشكل فوق صفحة بيضاء ، بل هو يتأثر بمختلف ما يحيط به أو يتعرض له أو يتصل بحياته منذ الطفولة . لذلك يختلف الناس فى الإحساس بما هو جميل . ومع ذلك فبين الأشياء الجميلة طابع مشترك يجعلنا نصفها بأنها جميلة .
          وقد يكون السبب فى اختلاف الذوق ، هو اختلاف القيم التربوية التى نشأ الإنسان فى ظلها ، أو تنوع عناصر البيئة التى أحاطت به فى البيت                     والشارع والمدرسة وأجهزة الإعلام والموقع الطبيعى . كما أننا نتأثر بماضينا فى الحكم على جمال الأشياء فتتدخل " ذكرياتنا " فى عملية تقديرنا الجمالى .
          وقد يكون مصدر اختلاف الأحكام الجمالية أن الناس يخلطون بين الجمال وأشياء أخرى . فهناك من يتصورون أن الشىء الجميل يجب أن يكون نافعًا ومفيدًا . والحقيقة أن الجمال ليس شرطًا أن يقترن بالمنفعة . وقد نحكم على الشىء بالجمال لأنه جديد أو غريب ، أو نخلط بين الجمال والجاذبية الجنسية .
          وكثيرًا ما نعجز عن إبعاد هذه العناصر المتداخلة عند تقديرنا لجمال الشىء. وكلما استطاع المتذوق استبعاد أكبر عدد من تلك العناصر التى تتداخل مع صفة الجمال ، ازداد اقترابه من إدراك الطابع الجمالى فى الشىء الجميل .
وبالتالى فإن الأحداث السياسية والظروف الاجتماعية قد تتداخل مع هذا الإحساس الذهنى بالانبهار والاستمتاع والراحة المرتبط بالموضوع القادر على أن يبث فينا الإحساس بالجمال ، وبالتالى فإن الأحداث السياسية والظروف الاجتماعية كثيرًا ما تؤثر فى مدى قدرتنا على استخلاص الجميل من بين العناصر التى تتداخل عند اكتشاف ما هو جميل والإحساس به .

* تعدد لغات التعبير عن الحس الجمالى

ولابد من ملاحظة أن كل شكل من أشكال الفن له لغته الخاصة فيما يتعلق بالأحكام الجمالية . فما يجعل لوحة جميلة أمر مختلف عما يجعل الموسيقى جميلة ، كما يختلف عما يجعلنا نكتشف الجمال فى قصة أو رواية أو شخصية مسرحية . وهذا يقودنا إلى اكتشاف قلة الكلمات المتخصصة التى تعاوننا على أن نعبر بدقة عند إصدار الحكم الجمالى ونحن نواجه أنواعًا متعددة مختلفة من أشكال الفن .
فقضية الجمال تختلف عن كونها مجرد " اتفاق " ، لأنه إذا أعلن شخص أن شيئًا ما جميل ، فهو يتطلب نفس الإعجاب من الآخرين - مع أنه  لا يحكم إلا تعبيرًا عن نفسه ولا يحكم بالنيابة عن الآخرين - بينما هناك من يتكلم عن الجمال كما لو أنه خاصية فى الأشياء .
ذلك أن العامل النفسى ، وهو عامل داخلى ، لا يخضع للمقاييس الكمية ، فى حين أن هذا العامل الداخلى هو أساس الحكم الجمالى .
لكن من أبرز العناصر فى تقدير الجمال بوجه عام ، صدق التعبير ،                 فهو السمة الظاهرة فى العمل الفنى التى تسمح بأن نصفه بالجمال . فالشىء يخلو من الجمال إذا خلا من الصدق .
وليس معنى هذا أن الصدق فى ميدان الفن مطابق للصواب فى ميدان البحث عما هو حق . إن الصدق فى ميدان التعبير الفنى متعلق بالقلب لا بالعقل - ومعنى ذلك أن صدق الأشياء الجميلة هو تعبيرها القوى المخلص عن المشاعر النبيلة .

* الجيل الجديد وتنمية الذائقة الجمالية

وأمام الأجيال الجديدة ، تظهر الحاجة إلى تعبير فنى يناسب احتياجاتها الجديدة المتغيرة - وغالبًا ما تظهر هذه الحاجة فى شكل " طلب التسلية " - بينما يسعى معظم من ينتجون ويوزعون " الفن الجماهيرى " إلى الحصول على الأرباح من وراء إشباع هذا الطلب - فالأحلام تتحول إلى سلع تجارية : الفتاة الفقيرة تتزوج المليونير ، والفتى الساذج يتغلب بقوته العضلية وحدها على كل العقبات التى يواجهها .
بينما هناك أعداد هائلة من البشر ما زال عليهم أن يتعلموا التمييز بين الجيد والغث ، وأن يشَكِّلوا ذوقهم ويطوروا قدراتهم على الاستمتاع بالأعمال ذات المستوى الرفيع .
هذا يقود إلى تأكيد القوة الاجتماعية والجمالية والتربوية للكلمة والصورة، والنظر إلى الإبداعات الفنية كقوى تترتب عليها آثار بعيدة المدى قوية التأثير . أى لابد أن نأخذ كل صور الإبداع الفنى " مأخذ الجد " - ذلك أننا نجد أمام الشباب والأبناء الآن ، كثيرًا من صور انعدام الذوق جنبًا إلى جنب مع الفن الصادق - تجد العواطف الزائفة إلى جوار الصدق الذى يمسك بالأنفاس . والذى يسعى إلى الربح يحاول إخفاء أهدافه فى ملابس تنكرية .
هنا يظهر دور التربية الواعية ، التى تبرز أهم أهدافها فى تنمية قدرة الجيل الجديد على التمييز بين الثمين الصادق والغث الزائف . وهذه التربية المسئولة لابد أن تتسلح بالوعى لأثر أبسط الكلمات والتصرفات ، التى كما تبنى الذائقة الجمالية واحترام الصدق الفنى وتؤكد التمسك بالجميل من السلوكيات ، فإنها قد تسرب القيم المرفوضة وتضفى القيمة الزائفة على النماذج المتخلفة التى لا يسعى منتجوها إلا إلى الربح على حساب قيم الخير والحق والجمال .

* دور الأسرة

للأسرة دور رئيسى فى فترة الطفولة المبكرة - فلابد أن نحيط الأبناء بما هو جميل وراقٍ وصادق ونبيل ، فى السلوك والتعامل .. فيما ننطق من كلمات وما نعبر به عن مشاعرنا من انفعالات وعبارات .. فيما نحيط به الطفل من تناسق وانسجام فى كل شىء .. فى اللوحات التى نعلقها على الجدران ، فيما نختاره من أغانٍ وموسيقى يستمع إليها الأطفال .. فيما نتيحه لهم من برامج فى التليفزيون أو على وسائل التواصل الاجتماعى عندما يبلغون العمر المناسب للتعامل مع هذه  الوسائل .
إن اختيارات الآباء التى لابد أن يتعرض لها الأبناء بحكم تواجدهم المكانى مع الكبار داخل البيت ، تترك أعمق الآثار وأطولها تأثيرًا فى اختيارات الأبناء ، وفى تنمية حسهم الجمالى والأخلاقى والسلوكى - فى اختياراتهم لملابسهم ، لألعابهم ، لأصدقائهم ، لما يشاهدون من أفلام ويقرءون من كتب ومجلات ، وما يستمعون إليه من موسيقى وأغانٍ ، وما يفضلون مشاهدته من لوحات وإبداعات تشكيلية .

* دور أجهزة الإعلام

وعلى من يقومون على شئون برامج التليفزيون ، مراعاة أن تلك الشاشات أصبحت من أهم مصادر تنمية الذائقة الجمالية لدى المشاهدين الصغار . ونرى هذا فى تقليد الصغار ، فتية وفتيات ، ملابس وسلوكيات المذيعات والمذيعيين ، وطريقة تصفيف الشعر ، بل طريقة الحديث والتعبير البدنى . إن كل " كادر " يظهر على الشاشة ، يساهم على نحو لحظى مستمر ، فى تكوين الذائقة الجمالية للمشاهدين . بل أصبحت الشاشات من أقوى وسائل نمو وتوجيه التذوق الجمالى إيجابًا أو سلبًا .

* أثر الحياة فى مدينة

وإذا انتقلنا إلى الشارع وما يموج به من مؤثرات على مختلف            الحواس ، وهى مؤثرات يتكرر تأثيرها وذلك للتعرض لها يوميًّا ، بل أكثر من مرة فى اليوم .. فيكفى أن نركز انتباهنا على أثر إعلانات أفلام السينما التى يشاهدها الصغار ويتأملونها وهم فى طريق الذهاب والعودة يوميًّا من وإلى مدارسهم - وهو ما حمل بعض الحكومات على أن تقرر ضرورة إخضاع كل إعلان يوضع فى الشارع لرقابة دقيقة ، لأن هذه الإعلانات من أكثر ما يتعرض له الأطفال والشباب من منتجات الفن التشكيلى ، بمساحتها المتسعة واختيار لقطاتها الأكثر إثارة وتأثيرًا .
وإذا أشرنا إلى الفوضى فى تجاور طرز العمارة المتنافرة ، فلابد أن نشير إلى ما يصيب واجهات تلك المنازل من تنافر فى الألوان قد يصيب الشقق المتجاورة فى بناية واحدة - والإعلانات العشوائية عن المهن والمحال التجارية التى تقدم أسوأ نماذج للفوضى وسوء الذوق .

* دور المدرسة

وإذا وصلنا إلى المدرسة التى يقضى فيها الطفل ثلث ساعات اليوم ، وتأملنا جدران كل صف دراسى ، وكيف يجب أن تكون عنوانًا للذوق والجمال فى كل ما يُعَلَّق عليها - وإذا تأملنا الفناء وما لابد أن يحتوى عليه من عناصر تتسم كلها بالذوق والتناغم ، فلابد أن نستنتج الأثر القوى لكل ذلك فى تنمية الذائقة الجمالية لدى التلاميذ .
ولابد أن نضيف أهمية الرحلات المدرسية لزيارة المتاحف الفنية والأثرية ، وأن تكون الكتب المدرسية عنوانًا للجمال والتناسق ، شيقة جذابة، وأن نتيح للأبناء ارتياد الحفلات الموسيقية الراقية وعروض المسرح مرتفعة المستوى .. كل هذا لابد أن يتضافر معًا لتنمية الذائقة الجمالية لدى أبناء الجيل الجديد .

أهم المراجع

 

- أرنست فيشر : ضرورة الفن - ترجمة أسعد حليم – القاهرة – الهيئة المصرية العامة للكتاب – 1971 .
- كولنجوود – روبين جورج : مبادئ الفن – ترجمة د . أحمد حمدى محمود – القاهرة – الدار المصرية للتأليف والترجمة – 1966 .
- جنكنز – إيردل : الفن والحياة – ترجمة أحمد حمدى محمود – القاهرة – المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر – 1963 .
- أبو ريان – الدكتور محمد على – تأليف - : فلسفة الجمال – القاهرة – الدار القومية للطباعة والنشر 1964 .

                              

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق