الاثنين، 14 مارس 2016

"البطريق ذو الندبة " رواية للأطفال بقلم: طلال حسن


البطريق ذو الندبة 
 رواية للأطفال


طلال حسن

   " 1 "
    عند مطلع الربيع ، تبدأ الكتل الجليدية ، في أماكن مختلفة من القطب الجنوبي ، بالتشقق والتفتت والتباعد ، مفسحة المجال لمياه البحر بالظهور ثانية ، بعد أن غابت، تحت طبقة من الجليد ، طول الشتاء .
ويوماً بعد يوم ، يأخذ الجليد بالانحسار عن السواحل ، والأراضي المتاخمة ، التي رقدت فيها بذور الحياة ، طوال أشهر البرد ، والتي استيقظت الآن ، فمدت جذورها في أعماق التربة الدافئة ، وأطلت بأولى أوراقها على السواحل والتلال والسماء ومياه البحر .
في غضون ذلك ، وكأنما تستجيب لنداء حار ينبثق من أعماقها ، تتجمع آلاف البطاريق ، من شتى أنحاء البحر، وتدفع برؤوسها السوداء ، وصدورها البيضاء ، عبر المياه ، مجذفة بأجنحتها الصغيرة الرقيقة الصلبة ، متجهة نحو الساحل ، بعد أن قضت الشتاء في عرض البحر ، متغذية على الأسماك والحيوانات الصغيرة الأخرى .
وعلى امتداد السواحل  ، وعبر تخوم البحر ، تحلق طيور مختلفة ، تلوح من بينها النوارس والكراكر والخراشن والفطارس والزمامج المائية الصغيرة . ومن بين هذه الطيور ، لا يوجد من يضارع الكراكر ، قراصنة البحر ، في تعلقها بالبطاريق ، فهي تتغذى في ما تتغذى عليه ، ببيض البطاريق ، وكذلك بصغارها غير المحروسة ، أو الضالة المنعزلة ،  وكأنه لا يكفيها ما تنهبه مما تصطاده الطيور الأخرى من الأسماك .
وتندفع البطاريق ، في مارثون متصاعد ، مجذفة عبر مياه البحر ، حالمة بالسواحل، والأعشاش ، ورقصات الأفراح ، ودفء الربيع ، ولذائذ الصيف ، والصغار الضاجين بالحياة .
ومن وسط تلك البطاريق ، يلوح بطريق فتيّ ، له ندبة فوق وجنته اليمنى ، لم تخفِ وسامته ومرحه وحيويته ، يشق المياه ، متطلعاً إلى عش ّ قديم يقع في أعلى الساحل
حيث ولد  وعاش أشهر الصيف بحلوها ومرّها ، وتمنى لو يصل في أسرع وقت ممكن ، لعله يرى أمه في العش، تقف منتظرة .وسيندفع إليها ، حين يراها ، خافقاً بجناحيه الصغيرين ، هاتفاً : ماما .
وستغالب أمه ابتسامتها ، وتقول بصوت متهدج : من !
وسيقف أمامها قائلاً : أنا بطريقك الصغير .
عندئذ ستضمه إلى صدرها ، وتقول : بنيّ ، إنني أنتظر بطريقي الكبير أيضاً ، آه من .. البطريق الكبير .
   " 2 "

     وصلت الطلائع الأولى للبطاريق إلى الجزيرة ، وخرجت تباعاً من الماء ، وانتشرت على امتداد الساحل، تتهادى على قائمتيها القصيرتين القويتين ، ناشرة جناحيها الصغيرين الرقيقين الصلبين ، لكي تحفظ توازنها .
وانصرفت الإناث ، تبحث عن أعشاشها القديمة ، لتقوم بترميمها ، وتجديدها بالحصى والنباتات ، التي تأتي بها من الساحل  .
وعلى غير المتوقع ، لم يتجه البطريق ذو الندبة إلى عشه ، الذي بنته أمه في أعلى الساحل ، وكذلك لم يتجه مع أغلب البطاريق إلى الساحل  ، وإنما اتجه إلى مرتفع جليدي ، يربو ارتفاع مقدمته على المتر ، ترى لماذا ؟ من يدري ، لعله أرجأ ذهابه إلى العش ، خوفاً من أن يجده خاوياً ، لا أثر فيه لأمه ، أو لأبيه ، البطريق الكبير.
ومهما يكن ، فقد توقف البطريق ذو الندبة لحظة ، أمام المرتفع الجليدي ، ثم قفز من بين الأمواج ، خافقاً بجناحيه الصغيرين ، وحطّ على حافة المرتفع . ويبدو أنّ قدميه لم تثبتا جيداً على الحافة ، فقد أخذ يتمايل إلى الأمام مرة ، وإلى الخلف مرة أخرى ، موشكاً على السقوط في البحر .
ولمح بطريقة فتية ، تراقبه من بين جموع البطاريق ، وكأنها تنتظر نهاية ، أية نهاية ، لمحنته . ولعل هذا دفعه إلى عدم الاستسلام ، فقفز قفزة ثانية ، أبعدته عن الحافة، ووضعت نهاية ، نهاية مشرفة ، لمحنته .
وتلفت حوله ، حين وقف ثابت القدمين على الجليد ، باحثاً عن البطريقة الفتية ، لكنه ، ويا للعجب ، لم يعثر لها على أثر، وسار البطريق ذو الندبة ، يتمايل كالعادة يميناً ويساراً ، متلفتاً حوله ، لعله يلمح البطريقة الفتية، وتوقف مبتسماً ، حين رأى مئات البطارق ، يسيرون بانتظام الواحد بعد الآخر ، في صفّ طويل منتظم ، كأنهم جنود مستجدون ، يتدربون على السير . ويبدو أنّ هذه اللعبة قد استهوته ، فما كان منه إلا أن انطلق مسرعاً ، واندس  متدافعا ً بينهم ، حتى أخذ مكانه في الصف ، وراح يسير كما يسيرون .
ولسبب لم يدره ، توقف البطريق ، الذي كان يسير أمامه فجأة ، فارتطم به بشدة ، وتوقف هو الآخر ، وصاح : امش ِ ، لا تتوقف مثل ..
والتفت البطريق إليه ، وتساءل غاضباً : مثل  ؟ مثل ماذا؟
  وفكر البطريق ذو الندبة ، ثم قال : لا أعرف ، لا أعرف بالضبط  .
ثم ابتسم ، وأضاف قائلاً : إنني أمزح معك .
وأشاح البطريق عنه بوجهه ، فربت على كتفه ، ثم قال متسائلاً : لماذا توقفت ؟
فرد البطريق بشيء من الانفعال : لأن جميع البطاريق ، التي أمامي ، توقفت .
ثم أشار إلى البطاريق ، التي أمامه ، وقال : انظر ، انظر إذا كان لك عينان .
ومال البطريق ذو الندبة ، ونظر إلى البطاريق ، التي في المقدمة ، وقال بنبرة مزاح : آه ، لابدّ أن تكون قد واجهتهم عقبة بارتفاع الحوت القاتل .
وأشاح البطريق بوجهه عنه ثانية ، فخرج من مكانه في الصف ، وانطلق نحو المقدمة ، شاقاً طريقه بصعوبة ، بين البطاريق المتدافعة ، وهو يصيح بأعلى صوته : طريق .. طريق .. طريق .
وأفسح البطاريق له الطريق ، دون أن يكفوا عن التدافع والصياح ، وما إن وصل أول الصفّ ، حتى رأى حاجزاً جليدياً ، لا يزيد ارتفاعه عن نصف متر ، يعترض طريقهم .
وتوقف البطريق ذو الندبة يبتسم قائلاً : يا له من حاجز ، إنه حقاً بحجم الحوت القاتل .
وصمت ، حين رأى البطريقة الفتية ، ترمقه بنظرة باسمة ، من بين البطاريق المتدافعة ،  فاندفع نحو الحاجز، وهو يصيح : بدل أن تقفوا متصايحين ، مثل .. مثل .. افعلوا مثلي .
وقفز فوق الحاجز الجليدي ضاحكاً ، فتبعه جميع البطاريق، وقد كفوا عن التصايح ، ومضوا بسرعة في إثره . والتفت إلى الوراء ، دون أن يتوقف ، أو يخفف من سرعته ، وراحت عيناه الباسمتان تبحثان عبثاً عن البطريقة الفتية .
وتوقف البطاريق فجأة خائفين ، متصايحين ، وارتطم بعضهم بالبعض الآخر ، وتهاوى عدد منهم على الجليد . ومن وسط هؤلاء البطاريق المتهاويين ، سمع بطريقة  تصيح به : حذار ، انظر أمامك .
ونظر البطريق ذو الندبة أمامه ، دون أن يتوقف ، أو يخفف من سرعته ، وإذا دبّ ضخم ، يقف منفرج الساقين ، على بعد خطوات منه ، وقد كشر عن أنيابه الرهيبة ، وبدل أن يتوقف ، زاد من سرعته ، ومرق كالريح من بين ساقيه المنفرجتين .
لم يلتفت الدب إليه ، رغم غضبه الشديد من فعلته ، وإنما اندفع نحو البطاريق مزمجراً،وقد فتح فمه على سعته. وتوقف البطريق ذو الندبة ، واستدار بسرعة ، وهاله أن يرى البطريقة الفتية ، تركض مرعوبة متعثرة ، وتحاول الهرب من الدبّ ، الذي يكاد أن يمسك بها ، فانطلق نحوها ، زاحفاً بسرعة على الجليد ، ومرّ كالبرق من أمام الدبّ ، ودفعها أمامه ، محتضناً إياها بجناحيه الصغيرين ، وما إن وصل حافة المرتفع ، حتى قفز بها، وسط عشرات البطاريق ، إلى مياه البحر .
وأفلتت البطريقة الفتية من بين جناحيه ، وهو يرتطم بالمياه ، ويغوص بسرعة نحو الأعماق ، وبنفس السرعة، صعد إلى السطح ، وبحث بين البطاريق السابحة حوله ، عن البطريقة الفتية ، لكنه لم يعثر لها على أثر .

   " 3 "
     غادرت البطاريق الماء جميعاً ، وصعدت إلى الساحل ، عدا البطريق ذو الندبة ، الذي ظل يتشاغل بين الأمواج ، وعيناه تبحثان عبثاً عن البطريقة الشابة .
وتناهت إليه من الساحل أصوات البطاريق ، ولسبب ما، أصغى ملياً ، ثم مضى يشقّ طريقه ، عبر الأمواج ، إلى مصدر الأصوات .
وخرج من الماء ، وراح كالعادة يتمايل في مشيته ، متجهاً نحو الأعشاش ، وسار على امتداد الساحل ، بين أفواج البطاريق ، يتحدث إلى هذا ، ويمزح مع ذاك . وخفق قلبه بشدة ، حين لمح طيفاً يعرفه ، يمرق من بين الجميع . إنها هي ، البطريقة الفتية . وأخذ يتلفت ، وعيناه المتلهفتان ، تبحثان عنها ، دون جدوى .
وأيقظته صرخة خائفة : هي ، أنظر أمامكَ .
 وتوقف ناظراً أمامه ، إنها بطريقة كاد يدوس عشها ، فابتسم لها، وقال : ها أنا أنظر أمامي ، يا لله .
ومال عليها ، وأضاف مازحاً : عشكِ جميل ، خذيني .
ورفعت البطريقة حصاة ملونة جميلة ، ووضعتها بين النباتات ، التي تبطن العش ، وهي تقول : لديّ بطريقي ، ابتعد .
واعتدل متسائلاً : ترى أهو جميل مثل .. مثل هذه الحصاة الملونة ؟
فدفعته البطريقة برفق ، وقالت : إنه أجمل منكَ ، هيا امضٍ من هنا .
ومضى متضاحكاً ، وعيناه تبحثان متلهفتين ، بين جموع البطاريق . وارتطم ببطريقة مسنة ، وكادت تهوي على الأرض ، فمد جناحيه الصغيرين ، وامسك بها ، وهو يقول : عفواً .. عفواً بطريقتي .
وانسلت البطريقة المسنة ، من بين جناحيه ، وقالت مبتسمة : عيناكَ مشغولتان ، ليتني أعرف عما تبحث .
فمال عليها ، وقال بصوت هامس : إنني أبحث عن .. زهرة.
وضحكت قائلة : أنظر ، إنّ الساحل مليء بالأزهار .
وتلفت حوله ، ثم قال : ما أبحث عنه زهرة مثل .. مثل .. آه من تلك الزهرة .
وربتت على كتفه ، وقالت : اذهب يا بنيّ ، وابحث عنها، عسى أن تجدها .
وسار مبتعداً ، ولحقه صوتها الضاحك ، تقول : أسرع يا بنيّ ، وإلا سبقك أحدهم إليها .
وظل البطريق ذو الندبة يسير بين الأعشاش ، حتى هدّه التعب ، دون أن يعثر لبغيته على أثر . فتوقف عن السير، وقال في نفسه : لا فائدة ، لن أجدها ، فلأذهب إلى العش .
وهنا ، وفي غلالة شاحبة من ضوء الشمس ، لمحها من بعيد ، واقفة عند عشّ قديم ، ترمقه بنظرة باسمة ، فخفق قلبه بشدة ، وتمتم : آه زهرتي .
وهمّ أن يشق طريقه ، عبر جموع البطاريق المتدافعة ، متجهاّ نحوها ، عندما رأى بطريقاً يتقدم منها ، فتنصرف إليه كلياً ، وتنخرط وإياه في حديث وديّ ضاحك . فتسمر في مكانه ، وأطرق رأسه هنيهة ، ثم استدار ، وسار متجهاً إلى العشّ ، في أعلى الساحل .وعلى مشارف صخرة ، تطل على البحر ، توقف عند بقايا عشّ قديم ، وتراءت له أمه ، وقد احتضنته بجناحيها الدافئين ، تتطلع مترقبة إلى عرض البحر .
وجلس على مقربة من الصخرة ، ورفع رأسه إلى أعلى، متأملاً السماء الممتدة الأطراف . وهبت الريح ، وتردد صوتها كالأنين على امتداد الساحل ، وتراءت له أمه ثانية ، وجاءه صوتها حزيناً  : بنيّ ، سيعود أبوك من عرض البحر ، إنني أرى عينيه ، تنظران  إلينا من بعيد، كأنهما نجمتان مضيئتان جميلتان .
لكن أباه لم يعد ، ورحلت أمه وحدها مع بداية الشتاء ، بعيداً عن الساحل، وهاهي البطاريق قد عادت إلى أعشاشها ، لكن  أمه لم تعد  ، ترى هل ستعود ؟
وأغمض النعاس ، بأنامله السحرية ، عيني " البطريق ذو الندبة " ، وأخذه إلى بطريقته الفتية ، التي لم يفهم نظراتها، حتى في الحلم .
" 4 "
     استغرق البطريق ذو الندبة ، في نوم عميق ، قرب عشهم القديم . ورأى في ما يرى النائم ، أمه تلوح له من عرض البحر ، وتهتف به بصوتها الشبيه بأنين الريح : جدد العشّ .. جدد العشّ .. جدد العشّ .
وأفاق من نومه ، وفتح عينيه الناعستين ، وإذا الشمس تطل بأشعتها الدافئة المرحة على البحر والجبال الجليدية والساحل المزدحم بالبطاريق المتدافعة الضاجة وتراءت له أمه ، كما رآها في الحلم ، وتردد في أعماقه صوتها الشبيه بأنين الريح : جدد العشّ ، جدد العشّ ، جدد العشّ.
واعتدل في جلسته ، وتلفت حوله متلهفاً ، وكأن أمه موجودة في مكان قريب ، وحين لم يجدها ، أطرق رأسه حزيناً، وقال في نفسه : أحقاً ستعود ماما ، أم أنها تريدني أن أجدد العشّ لغرض آخر .
 ومهما يكن ، وبالرغم من أنّ العشّ ، تجدده عادة أنثى البطريق ، إلا أنه قرر أن يجدد عشهم القديم بنفسه ، وبأسرع وقت ممكن ، وذلك بأن ينظفه من النفايات ، والنباتات القديمة ، ثم يأتيه بحصى جميل ، ونباتات جديدة ، من الساحل .
ونهض متثاقلاً ، وقد صمم على البدء بالعمل ، لكنه توقف هنيهة ، وأرسل نظره إلى الساحل . كانت البطاريق تتزاحم ، تحت أشعة الشمس الدافئة ، غادية رائحة بين الأعشاش ، فترك العشّ ، وانحدر متجهاً نحو الساحل ، وهو يقول في نفسه : سأجدد العشّ ، نعم ، سأجدده ، لكن ليس الآن  .
وسار متمايلاً كالعادة ، متجولاً بين الأعشاش ، والبطاريق المتزاحمة . وأخذ يدور هنا وهناك ، لكن قدميه كانتا تقودانه ،أم أنه هو الذي كان يقودها ، إلى حيث رأى البطريقة الفتية ، قبل أن يمضي إلى عشه القديم .
واعترضته وسط الزحام ، البطريقة المسنة مبتسمة ، فابتسم لها ، وقال : يا للصدفة .
وتطلعت إليه البطريقة المسنة ، وقالت : يبدو أنك لم تعثر بعد على زهرتك .
فرد البطريق ذو الندبة قائلاً : ليس من السهولة العثور على أمثال زهرة .. كزهرتي .
وهزت البطريقة المسنة رأسها ، وقالت : ما أخشاه ، يا بنيّ ، أنك تبحث عن زهرة لا وجود لها .
وحدق البطريق ذو الندبة فيها ملياً ، وقال قبل أن يمضي مبتعداً : إنها موجودة ، يا عزيزتي ، موجودة ، وهنا تكمن المشكلة .
وتجول مرة ، ومرات ، على امتداد الساحل ، بين أعشاش البطاريق المتزاحمة الضاجة . وبعد ساعات ، وجد نفسه مرة أخرى ، حيث تقوده قدماه ، دون أن يدري ، أم أنه كان يدري ؟
ومن بعيد ، وعبر الزحام والضجيج ، رآها منهمكة في تجديد عشّ قديم ، لابدّ أنه عشها الذي ولدت فيه ، وإلى جانبها يقف بطريقها الحارس مثل .. مثل .. أهو حقاً بطريقها ؟
ورفعت البطريقة الفتية رأسها ، كأنها شعرت بأنه ، هو بالذات ، يرسل النظر إليها . ونظرت إليه ، والتقت عيناها بعينيه ، بنظرة طويلة غامضة ، ولعل البطريق الحارس ، انتبه إلى نظرتها ، فسدد عينيه الحادتين المتشككتين حيث تنظر ، وفي الحال ، استدار البطريق ذو الندبة ، وإذا هو وجهاً لوجه مع البطريقة المسنة ، فانحنى لها مازحاً ، وقال : آه ، يا للصدفة .
وابتسمت البطريقة المسنة ، وقالت : من أدراك ، يا عزيزي ، لعلها ليست صدفة .
وابتسم البطريق ذو الندبة ، وقال مازحاً : إنني أبحث عمن تجدد عشي .
وأشارت البطريقة المسنة إلى ما حولها من بطارق ، وقالت : انظر ، هناك المئات والمئات من الإناث في عمرك ، يتمنين ذلك ، أنت بطريق فتيّ رائع .
وضحك البطريق ذو الندبة ، وقال : إنني أريد بطريقة ناضجة .
وردت البطريقة المسنة قائلة : يا للأسف ، إنني ناضجة أكثر مما ينبغي .
ومضى البطريق ذو الندبة مبتعداً ، وهو يلوح لها ، ويقول : وداعاً .
فلوحت البطريقة المسنة له ، وقالت : لا تقل وداعاً ، فقد نلتقي مرة أخرى .
وصمتت لحظة ، ثم قالت : إلى اللقاء .
وسار البطريق ذو الندبة ، مبتعداً عن الساحل ، بأعشاشه وبطارقه المتزاحمة الضاجة ، متجهاً نحو عشهم القديم ، في أعلى الساحل . وتوقف مبهوراً ، حين أبصر ، تحت أشعة الشمس ، وفوق كومة من الثلج ، حصاة ملونة جميلة ، وقال في نفسه : هذه الحصاة لا يليق بها سوى عشّ واحد ، هو عشّ .. زهرتي .
وانحنى البطريق ذو الندبة ، على الحصاة الملونة ، والتقطها بمنقاره ، وبدل أن يأخذها إلى عشّ زهرته ، البطريقة الفتية ، مضى بها قدماً إلى عشهم القديم ، في أعلى الساحل .
   " 5 "
     لسبب لا يعرفه ، لم ينم البطريق ذو الندبة ، رغم شعوره الشديد بالتعب ، أهي أمه ، التي لم تأتِ بعد من عرض البحر ، والتي قد لا تأتي ؟  أم الحصاة الملونة الجميلة ، التي كانت تجعل البطريقة الفتية لا تغيب عن ذهنه ، أم أنّ هناك سبباً آخر ؟
ومهما يكن  ، فإن الحصاة الملونة الجميلة، كانت تشغله، وتثير خياله ، في اتجاهات  متضاربة . لقد همّ ، أكثر من مرة ، أن يحمل الحصاة بمنقاره ، ويهبط بها إلى الساحل، ليقدمها إلى البطريقة الفتية ، بل تخيل نفسه يتقدم من البطريقة الفتية، ويضع الحصاة الملونة الجميلة أمامها ، ثم يقول : تفضلي .
وتخيلها تنظر إليه في تساؤل ، فيضيف قائلاً : هذه الحصاة الملونة الجميلة هدية لكِ ، وهي لا تليق إلا بعشكِ .
لكنه ما إن يتذكر بطريقها الحارس ، حتى يتراجع ، ويشيح بعينيه عن الحصاة الملونة الجميلة مفكراً: لعلها تريده .. هذا حقها .. وإن كان لا يليق .. مهما يكن إنها حرة .. تختار من تختاره .. وليس من حقي أن أتطفل عليها .
ويطرق رأسه لحظات ، وسرعان ما تعيده الحصاة الملونة الجميلة إلى تخيلاته ، سيتقدم من البطريقة الفتية، هذه المرة ، حاملاً الحصاة الملونة بمنقاره ، ويضعها برفق بين نباتات عشها ، ثم ينظر إليها ، ويقول : آه ، انظري ، إنّ عشكِ الآن أكثر جمالاً .
وقد تبتسم البطريقة الفتية ، بل ستبتسم حتماً ، وتقول : أشكرك ، إنها حقاً حصاة جميلة .
ولعلها ستميل عليه ، وتهمس له بصوت دافىء ، وهي توميء برأسها إلى العشّ : ما رأيكَ أن .. ؟
ويهزّ رأسه منفعلاً ، يا للعنة ، ألا يمكن أن يبقى هذا البطريق الحارس بعيداً ، حتى في الخيال ؟
وهنا ارتفع صوت كركرة من جهة البحر ، فرفع البطريق ذو الندبة رأسه ، وإذا كركر يهاجم أطيش يحمل سمكة بمنقاره ، يبدو أنه اصطادها للتو من أعماق البحر . وخفق قلبه غضباً ، حين رأى الكركر ، يواصل مهاجمة الأطيش ، ويضايقه حتى أطلق السمكة من منقاره ، عندئذ انطلق الكركر بسرعة ، والتقط السمكة ، وهي في الفضاء ، وابتلعها على الفور .
وغاب الكركر في البعيد ، بعد أن غيّب سمكة الأطيش في جوفه ، لكنه لم يغب من مخيلة " البطريق ذو الندبة "فهاهو يراه ، كما لو كان الآن ، ينقض عليه صارخاً ، وهو بطريق  صغير زغب ، ولو لم تسرع إليه أمه ، وتنقذه من منقاره في اللحظة الأخيرة ، لكان لقمة سائغة، لذلك القرصان الأسود .
وأطرق البطريق ذو الندبة رأسه ، وراح يفكر ، تلك البطريقة الفتية إنه يريدها كما يريدها الآخرون ، لماذا لا ينافس البطريق الحارس عليها ؟ إنه فتيّ ، وقويّ ، وجسور ، ويمكنه مهاجمة ذلك البطريق الحارس ، ومضايقته ، حتى يبتعد عن البطريقة الفتية ، وعندئذ سيفوز هو .. ، ورفع رأسه ، لا ، صحيح أنه ليس الأطيش ، لكنه ، ومهما كان السبب ، لن يكون الكركر .
 وهبّ من مكانه ، وقد قرر أن يكرس جهده لتجديد العش، وأن يصرف ذهنه عن كل ما يتعلق بالبطريقة الفتية . وخلال فترة ليست قصيرة ، جدد العش مرات عديدة ، فاستبدل حصاه غير مرة ، كما استبدل نباتاته ، التي أتى بها من الساحل .
وكان يرفع رأسه ، بين فترة وأخرى ، ويتطلع إلى عرض البحر ، ويخاطب أمه وكأنه يراها تنظر إليه من بين الأمواج : ماما ، انظري ، ها إني أجدد العش ، كما أردت وسوف أنتظر .
وانتظر ، انتظر طويلاً ، دون جدوى .لم تأتِ أمه من عرض البحر ، ولم يحاول من جهته ، أن يدعو بطريقة فتية ، أية بطريقة فتية ، إلى العشّ .وفوجيء بالبطريقة المسنة ، تقبل عليه لاهثة ، فهبّ من مكانه ، يرحب بها قائلاً : أهلاً ، أهلاً بطريقتي ، لا تقولي إنها صدفة .
وابتسمت وهي تحاول التقاط أنفاسها ، وقالت بصوت متقطع : لا ، لا يا عزيزتي ، إنها ليست صدفة .
وصمتت لحظة ، ثم قالت : آه ، لقد شخت .
فرد البطريق ذو الندبة مازحاً : لم تشيخي بعد ، فأنت ما تزالين قادرة على تجديد عشك .
وغالبت ضحكتها قائلة : آه منكَ .
وصمتت ، وهي تتأمله ، ثم قالت : لم أرك على الساحل منذ مدة ، وخشيت أن تكون مريضاً .
ورد البطريق ذو الندبة مبتسماً : لا ، لست مريضاً ، لقد انشغلت هذه المدة بتجديد العشّ .
وأشار إلى العشّ ، وقال : انظري ، ما رأيك ِ ؟
ونظرت البطريقة المسنة إلى العشّ ، وتأملته ملياً ، ثم قالت : جميل ، ولكن ..
وحدق فيها متسائلاً : لكن ؟ لكن ماذا ؟
فردت البطريقة المسنة قائلة : تنقصه لمسة بطريقة .
ولاذ البطريق ذو الندبة بالصمت ، فقالت البطريقة المسنة ، وهي تتأهب للانصراف : الوقت يمرّ ، يا عزيزي ، وعليكَ أن تقرر ، وبسرعة .
وانصرفت مبتعدة ، وهي تقول : بعد ساعات ، سيكون الاحتفال الراقص ، تعال واختر لكَ بطريقة فتية ، قبل فوات الأوان .
ووقف البطريق ذو الندبة ، يراقب البطريقة المسنة ، تسير ببطء منحدرة نحو الساحل حتى غابت .
" 6 "
      بدأ الاحتفال الراقص مبكراً ، وازدحم الساحل بمئات الراقصين من البطاريق ، وراحت الإناث تتابعهم خلسة ، وإن بدا وكأنهن لا يعرنهم أيّ اهتمام .
وتسللت البطريفة المسنة من بين البطاريق ، وقبعت فوق مكان مرتفع ، يطل على الراقصين ، وبحثت بعينيها المحبتين عن " البطريق ذو الندبة " ، دون جدوى . وخشيت أن يتأخر ، أو يمتنع عن المجيء ، فيفوته الاحتفال الراقص ، وما بعد الاحتفال الراقص .
ومع مرور الوقت ، راح عدد الراقصين يزداد ، وراحت حمى الرقص تتصاعد شيئاً فشيئاً ، وأخذ البطاريق الراقصون يتمايلون ، ويدورون ، وهم يخفقون  بأجنحتهم، مستعرضين فتوتهم ، وقوتهم ومهاراتهم أمام الإناث اللواتي كنّ يتظاهرن بعدم المبالاة .
وبين فترة وأخرى ، كان كل منهم ، ينحني أمام بطريقة بعينها ، كأنه يقول لها بلغة الرقص : أنتِ لي .. وأنا لكِ .. انتظريني .
وخفق قلب البطريقة المسنة فرحاً ، حين رأت " البطريق ذو الندبة " يرقص متمايلاً برشاقة وحماسة بين البطاريق ، وعيناه المتلامعتان تجوسان متسارعتين ، دون أن تستقرا على أحد . وهزت رأسها مبتسمة ، وقالت في نفسها : يبدو أنه مازال يبحث عن زهرته ، ليته يلقاها فيريحني ، ويرتاح .
وداخلها شيء من القلق ، إذ لمحت بطريقاً يندفع نحو " البطريق ذو الندبة " فيزاحمه محاولاً مضايقته ، وإبعاده عن ساحة الرقص ، لكنه كان يراوغه مبتسماً ، ويتجنب الصدام معه .
وبعد حين ، بدأت حرارة الرقص تخفت شيئاً فشيئاً ، وراح البطاريق يتبادلون النظر مع الإناث ، اللواتي تخلين عن التظاهر بعدم المبالاة . وهنا نهضت البطريقة المسنة من مكانها ، وانحدرت مسرعة نحو الساحل .
وتوقف الرقص ، وأخذت البطاريق تتفرق إلى أعشاشها زوجاً زوجا . وتابع البطريق ذو الندبة خلسة ، غريمه الذي يكبره سناً ، يسير متبختراً نحو البطريقة الفتية ، فأشاح عنه بنظره ، ووقف مطرقاً .
وتوقفت البطريقة المسنة قبالته ، وحدقت فيه ملياً ، ثم قالت : رأيتك من بعيد ترقص ، أنت راقص ماهر .
ورفع رأسه إليها ، دون أن ينطق بكلمة ، فأشارت إلى ندبته ، وقالت : تعجبني هذه الندبة .
فمدّ جناحه ، ولمس الندبة ، وقال : لقد حاول كركر البحر اختطافي ، وأنا صغير ، فأنقذتني أمي من منقاره ، في اللحظة الأخيرة .
وغامت عينا البطريقة المسنة ، وقالت بصوت دامع : منذ عامين تقريباً ، كان لي صغير يشبهك ، ولو لم يقتله الصقيع ، لكان الآن في عمرك ، ولكنت فرحتُ به في هذا اليوم .
وصمتت لحظة ، ثم تطلعت إليه ، وقالت : بنيّ .
وأدرك البطريق ذو الندبة ما تريد قوله ، فتراجع قليلاً ،
وقال : عفواً ، آن لي أن أعود إلى العشّ .
وحاولت البطريقة المسنة ، أن تستوقفه ، وقالت متأثرة : مهلاً ، مهلاً يا بنيّ ، أنت بطريق فتيّ ، وهناك أكثر من زهرة تتمناك .
لكن البطريق لم يتمهل ، ومضى مبتعداً ، وهو يقول : إلى اللقاء .
وتوقفت الطريقة المسنة صامتة ، وقد غرقت عيناها بالدموع .
" 7 "
     جلس البطريق ذو الندبة ، على مقربة من الصخرة ، المطلة على البحر ، متطلعاً إلى مياه البحر ، التي تمتد هادئة ، ساكنة ، حتى الأفق .
واستغرق في تأملاته ، وقد غاب عما حوله ، وتراءت له أمه ، وأبوه ، والبطريقة المسنة ، و .. وأفاق من تأملاته على صوت دافيء يحييه : عمتَ مساء ً.
وخفق قلبه بشدة ، يا لله ، إنها هي ، البطريقة الفتية ، وهبّ واقفاً ، وردّ بصوت يهزه الفرح : أهلاً ، أهلاً ومرحباً .
وعلى ضوء النهار الشاحب ، تأملت البطريقة الفتية العش ، ثم قالت : عشك جميل جداً .
وابتسمت ، ثم أضافت : لكن ينقصه شيء .
وابتسم البطريق ، دون أن ينبس بكلمة ، فتقدمت البطريقة الفتية  ، والتقطت الحصاة الملونة الجميلة بمنقارها ، ووضعتها بين النباتات ، في أعلى العشّ ، وقالت : لم يعد ينقصه الآن أيّ شيء .
وتوقفت صامتة ، ففرد جناحيه القويين ، وضمها إلى صدره . فتنهدت بارتياح ، وقالت : منذ أن ضممتني بجناحيك ، وطرت بي من بين مخالب الدبّ ، صرت لكَ، لك وحدك .

      البطريق : من الطيور التي لا تطير ، لكنها تجيد
                    الغطس ، وتسبح بسرعة ، تعيش
                    البطاريق في قارة القطب الجنوبي ،
                    والجزر المنعزلة في البحار الجنوبية ،
                    وعلى سواحل اوستراليا وزيلاندا
                   الجديدة .
الكركر           : لص بحري شبيه بنوارس المحيط
                     الهادي ، لونه أسود قاتم ، قادر على
                     اجتياز المسافات الطويلة طيراناً ، وهو
                     بدل أن يصيد ، يقوم بنهب ما تصطاده
                      الطيور الأخرى من أسماك .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق