الخميس، 24 سبتمبر 2015

حكاية (من قلب المعركة) قصة للأطفال بقلم: سريعة حديد

حكاية (من قلب المعركة)


للأديبة : سريعة حديد

فوقَ الوجهِ الأسمرِ بدأْتُ أرسمُ الخوذةَ العسكريَّةَ, وأبي يقصُّ عليَّ ما جرى معه عندما كانَ معسكرُهُ مُحاصَراً من الأعداءِ. قالَ, وقد بدا على وجهِهِ التعبُ:
جاءَ دوري لأجلبَ الماءَ, البئرُ بعيدةٌ, والطريقُ إليها خطرةٌ, القذائفُ الناريَّةُ المتبادلةُ لم تتوقَّفْ أبداً, والحاجةُ للماءِ ضروريَّةٌ جدّاً.
سرتُ باتجاهِ البئرِ, كنْتُ يائساً مهموماً, أتمنَّى الموتَ في كلِّ لحظةٍ, فأنا مُتعَبٌ كثيراً, والحربُ قاسيةٌ ومؤلمةٌ.
في طريقِ عودتي, آثرتُ أن أدخلَ بين الأشجارِ الكثيفةِ, روائحُ الصنوبرِ مدهشةٌ, تختلطُ بروائحِ الحشائشِ والرطوبةِ والبارودِ. فجأةً شاهدْتُ شيئاً لا يُصدَّقُ. صرْتُ ـ يا منذرُ ـ مُتفائلاً منذُ تلكَ اللحظةِ, منذُ رأيتُها...
فقاطعتُهُ مندهشاً: رأيتَها؟! مَنْ هي؟ وكيفَ وصلَتْ عندَكَ, ومعسكرُكَ مُحاصَرٌ؟
ـ رأيتُها في ذلكَ الصباحِ النديِّ, كانَتْ مختفيةً بين الأغصانِ الغضَّةِ والحشائشِ اليابسةِ, استغربْتُ, كيفَ طلعتْ من بين القذائفِ المُتهافتةِ وسطَ الغبارِ.. وأصواتِ الانفجاراتِ.. وروائحِ البارودِ..
لم أصدِّقْ أنْ أرى حياةً نضرةً وسطَ هذهِ المعركةِ.
قلتُ: تبدو جريئةً جدّاً. ورحْتُ أرسمُ جسدَ الجنديّ وهو يأخذُ وضعيَّةَ القرفصاءِ. وتابعَ أبي:
نعمْ ـ يا منذر ـ ورائعةً جدَّاً, بكيْتُ لحظةَ ضممْتُها إلى صدري, قبَّلْتُها, شكوتُ لها خوفي على أهلي وجيراني ووطني.. مسحْتُ دموعي بثوبِها الأخضرِ الرقيقِ, تأمَّلْتُها, رأيْتُ كيفَ تخرجُ الحياةُ من أعطافِها, على الرغمِ مِن كلِّ معالمِ الموتِ واليباسِ من حولِها.
قبَّلْتُها كثيراً. قلتُ: كم كنتُ بحاجةٍ إليكِ, أيَّتُها الرائعةُ! لقد أعدْتِ إليَّ الروحَ, وجعلتِني أبتسمُ رغماً عنّي.
قلْتُ وأنا أتابعُ رسمَ العبوةِ الناسفةِ, ويدُ المُقاتلِ تمسكُ بشريطِها الصاعقِ: أبي, لقد أثرتَ فضولي. مَن تكونُ تلك الفاتنةُ؟
ـ اسمعني ـ يا منذرُ ـ بتُّ أخشى أن أفقدَها, لأنَّني أعرفُ أنَّها لن تبقى سوى عِدَّةِ أيامٍ, صدِّقني, خفتُ عليها من القذائفِ كثيراً, فهي رقيقةٌ جدّاً, لا تتحمَّلُ ولو مرورَ رصاصةٍ قربَها.
توقَّفتُ عن الرسمِ. قلتُ: أتبكي يا أبي؟! سامحَكَ اللهُ, لقد دمعَتْ عيناي, قلْ لي بحقِّ اللهِ, مَنْ تكونُ؟
ـ لن تُصدِّقَ إن قلْتُ لكَ مَنْ هي ـ يا منذرُ ـ إنَّها وردةُ ليلك بنفسجيَّة, تتمايلُ بعطرِها الناعمِ, وقد بثَّتْه بأنفاسِها الرَّطبةِ, كانتْ بضعُ قطراتٍ من الندى تتوضَّعُ فوق تُويجاتِها وأوراقِها الغضَّةِ, فكيفَ طلعَتْ لي من حيثُ أدري ولا أدري, كانَتْ تهتزُّ بلطفٍ وكأنَّها تُومِئُ لي.
ــ وبعدها, أرجوك أكملْ - يا أبي- لقد أثرْتَ فضولي.
ـ وبعدها ـ يا منذرُ ـ عدْتُ, وقبَّلتُها, استنشقتُ عبيرَها بعمقٍ, كم شعرْتُ بالضعفِ أمامَها, وهي الصامدةُ في مهبِّ الريحِ و قسوةِ الحربِ!
ـ هل قطفْتَها؟
ـ لا, بل تركتُها لعابرٍ مثلي, قد يحتاجُ إلى دفعةٍ من الأملِ فتروي نفسَهُ بالتفاؤلِ وحبِّ الحياةِ.
ـ وبعدَها, قلْ لي ماذا فعلْتَ؟ وأمسكْتُ بالقلمِ.
ـ وبعدَها, رويْتُ تربتَها بالماءِ, غسلْتُ أوراقَها من الغبارِ. وأخيراً التقطتُ لها صورةً تذكاريَّةً, وتمنَّيتُ لها السَّلامةَ, وشكرتُ الخالقَ على حُسنِ إبداعِها, ووجودِها في طريقي.
انتبهتُ إلى لوحتي, لسْتُ أدري كيفَ محوتُ العبوةَ الناسفةَ وشريطَها الصاعقَ, ورسمْتُ مكانَها وردةَ ليلكٍ رائعةً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق