الخميس، 12 فبراير 2015

( درة المملكة ) المدينة المنورة قصة للأطفال بقلم: د.سوسن أمين

 ( درة المملكة )
المدينة المنورة
للكاتبة الدكتورة / سوسن أمين

القصة الحاصلة على الجائزة التشجيعية في المسابقة الإبداعية لقصص الأطفال التي أقامها النادي الأدبي بالمملكة العربية السعودية في المدينة المنورة بالمشاركة مع مركز بحوث ودراسات المدينة المنورة
الفصل الأول
المدينة .. الأمل والحلم والرجاء الغالي الذي راودني منذ الطفولة .. ولم تسمح لي ظروفي وقتها أن أطمع أو أطمح ولو في أحلامي أن تراود زيارتها حتى خيالي .
منذ كنت في الثانية عشر من عمري ومنذ يوم  ظل صديقي وجاري ورفيقي على  نفس الطاولة في الصف الأول الإعدادي على ذكرها أمامي لأيام وليالي ،خاصا ذلك اليوم في طرف الفناء الخالي قائلا لي في تعالي ..
 
نادر ـــ هناك في المدينة سوف تكون الحياة رائعة ..  العمل الذي جاء لأبي هناك عمل غير عادي.. شركة كبيرة وموظفين كثيرين وصاحبها رجل غني جدا .. طبعا.. أليس والدي مهندس كبير وشخصية عظيمة والكل يتمنى العمل معه .. ثم أنه سيحصل على مرتب عالي جدا سيجعلنا أغنياء وسنترك هذا المكان الضيق، الحقير والمزدحم  جدا لنعيش في قصر كبير في مكان هادئ جميل وسوف يكون  له حديقة جميلة واسعة .

أحمد ـــ وتتركنا يا نادر ..لماذا؟..  وهل ستنسانا؟

نادر ـــ سأحاول ألا  أنساكم .. ولكن أنت تعرف سوف تتغير حياتنا تماما بعد سفرنا إلى السعودية  وبعدما نصبح أغنياء ولكن سوف أعطيك عنواني وسوف أدعوك لزيارتي في هذا القصر العالي .. و سوف أسمح بزيارتك لي بين الحين والحين  ولكن ليس كثيرا لأني سوف أكون مشغولا جدا بأصدقائي الجدد وبألعابي الكثيرة التي سوف يحضرها لي أبي .. وسوف يشترك لي  في أكبر نادي رياضي .. وسوف نسافر لأوروبا في الصيف.. وقد نعيش هناك للأبد ولا نعود هنا مرة أخرى .

أحمد ـــ وهل يمكن أن أذهب أنا الأخر إلى المدينة ؟  

نادر ـــ لا يمكن هذا .. كيف تذهب ووالدك موظف بسيط والسعودية لا تطلب للعمل بها إلا الموظفين الكبار من  ذوي المؤهلات العليا والكفاءات النادرة . أنا وحدي الذي سوف أذهب إليها ، أما أنتم فسوف تمكثون هنا في هذا الجو الخانق والأحياء الفقيرة

أحمد ـــ وهل والدي ليس من هؤلاء يا نادر؟

نادر ـــ بالطبع لا .. وحتى وإن ذهب للعمل في وظيفة بسيطة هناك فهو لن يستطيع أن يصطحبك معه كما سيفعل أبي لأن مرتبه لن يكفي لأقامتك معه ولأن القانون هناك يمنع أصحاب ذوي المؤهلات المتوسطة من أصحاب عائلتهم معهم .

أحمد ـــ من قال لك هذا؟

نادر ـــ والدتي ..

أحمد ـــ يا خسارة .. كنت أتمنى أن نظل معا للأبد يا نادر فلا نفترق أبدا .. فأنت في منزلة أخي  الذي لن يأتي أبدا لوفاة أمي وتركي وحدي أنا وأبي .. كما أنك صديقي الغالي منذ  كنا أطفال صغار وجاري في المنزل وفي المدرسة.. ووالدك صديق لوالدي وأعمامي .

نادر ـــ حقا  والدي ولد وتربى معهم في هذا الحي القديم .. القاتم .. لكن وجودنا في هذا الحي مؤقت كما تقول لي أبي دائما .. فهذا المكان لا يليق به ولا بنا .. فوالدي كان والده موظف كبير جدا في الحكومة كما تعلم.. أما جدك فقد كان ..

أحمد ـــ كان شيخا .. وما في ذلك يا نادر .. كان جدي رحمة الله رجل شريف يحفظ القرآن و الأحاديث الشريفة ويعلمهما للصبية .. ووالدي أيضا حفظة القرآن .. وهو الآن من أختاره الناس ليؤمهم في الصلاة كما ترى  لحلاوة صوته ولإتقانه للتلاوة .. وأنا الآن أحفظ القران وأراجعه مع أبي في السنة مرة أو مرتان.

نادر ـــ لم أقل شيء يا أحمد .. ولكن هناك ولاشك فروق كثيرة بيننا .

أحمد ـــ وما هي ؟

نادر ـــ ألست أنا الأكثر أناقة وجمالا بين كل أقراني بشهادة الجميع وكما تؤكد أمي .. ألست أنا أول من أقتنى الألعاب الكهربائية من عربات وطائرات وقطارات التي تتحرك عن بعد بالتحكم الذاتي .. ألست أنا أول من أقتنى الأسلحة التي تطلق أنوارا باهرة ودخانا كثيفا وأصواتا رهيبة كالتي تظهر في الأفلام السينمائية .. ألست أول من  أقتنى جهاز كمبيوتر ويومها جئت منبهرا لرؤيته عندي.. ألست أنا الوحيد الذي أدعوكم لأعياد ميلادي .. فما بالك بعد الذهاب للسعودية .. ماذا سيكون عندي من المقتنيات الثمينة .. ألست أنا ..

أحمد ـــ كفى .. كفى يا نادر .. ما كل هذا ..                                                                         
نادر ـــ لماذا .. أليس والدي الوحيد الذي يملك سيارة  فاخرة  في حينا هذا.. ألسنا الأسرة الوحيدة التي تذهب في الصيف إلى الإسكندرية.. ألسنا ..

أحمد ـــ كفى يا نادر ..كفى .. ولا تغضب .. نعم أنت الوحيد الرائع في هذه الدنيا ولكن لا بد أن أعود الآن للبيت .. فوالدي لا يتناول الطعام إلا معي .. ولكن أريد أن أذكرك فقط  وليس من باب  الغرور أو التفاخر ..ألست أنا من أطلع دائما الأول دائما  وأنت ترتيبك يأتي بعدي بكثير .. بحوالي .. ..

 نادر ـــ نعم.. نعم هذا صحيح ولكني نسيت ..

أحمد ـــ الواضح أن ذاكرتك تعدي مالا يرفعك وتحتفظ بالباقي ..

نادر ـــ  قول لي يا أحمد هل مازال والدك يعمل على سيارة الأجرة بعد فراغه من عمله الحكومي؟

أحمد ـــ نعم .. وما في ذلك ؟

نادر ـــ لا شيء .. ولكن كونه سائق .. أعتقد أن هذا يسبب لك ضيقا وإحراجا .. فلاشك أنه عمل  وضيع .. سائق تاكسي .. يا لا العار..

أحمد ـــ ما هذا الذي تقوله .. وكيف تجرؤ .. بالعكس تماما .. فأنا فخور بأبي وعمله .. وإن كنت فقط أشفق عليه من كثرة أعبائه ..

نادر ـــ لو أحتاج أبيك لشيء دعه يسأل أبي ..

أحمد ـــ لا .. شكرا جزيلا ..  ولكننا لا نسأل إلا الله الواحد والحمد الله.

   ë    ë    ë

الفصل الثاني
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عدت إلى منزلي يومها حزين باك .. ما الذي حدث لصديقي .. هل هذا نادر الذي كان يقطر عذوبة ومودة .. ما الذي جرى له .. وكيف استطاع أن يجرحني بهذا الشكل وهو الذي يعرف رقة مشاعري وحساسيتي وكيف أني أعامل كل الناس بذوق حتى لا أحرجهم أو أضايقهم ..
حمدت الله أني لم أجد أبي وإلا كان رأى دموعي .. ودخلت لسريري واستسلمت لأحزاني.                                                          
    
 وفجأة وقف الرجل المهيب  يشير إلي و يناديني .. كان بجلبابه وغطاء رأسه الأبيض الناصع المتحرك في الهواء هنا وهناك  كالطائر المحلق في السماء .. شيخ جليل في حوالي الستين من عمرة .. ذو لحية بيضاء.. عليه من الهيبة والبهاء ما طمأنني ولكني ظللت في دهشة من أمري .. من أين أتى ؟ وكيف وصل إلى حجرة نومي ؟ ولكنه ظل يشير إلي و يناديني..

الشيخ حمد ـــ يا أحمد يا أبن محمد يا أبن حامد..  اتبعني

أحمد ـــ أنا

الشيخ حمد ـــ ومن سواك يا فتى .. نعم يا بني .. هيا معي

أحمد ــ من أنت ؟

الشيخ حمد ــ أنا الشيخ حمد

أحمد ـــ و إلى أين ؟

الشيخ حمد ـــ إلى هناك .. حيث تتمنى

أحمد ـــ وما تمنيت يا سيدي ؟

الشيخ حمد ـــ ألم تتمنى زيارة المدينة

أحمد ـــ نعم ..  المدينة المنورة

الشيخ حمد ـــ  و الله  بفضله قد استجاب لك و سيحقق لك هذا.. تعرف لماذا ؟ لأنك تحمده ولا تسأل سواه .. ولهذا سوف تذهب معي لزيارة جدك 

أحمد ـــ جدي                                                                         

 الشيخ حمد ـــ نعم .. ألا تعلم أنه هناك 

أحمد ـــ معقول .. كيف .. في المدينة المنورة ..                                                                      
الشيخ حمد ـــ نعم .. سوف ترى .. ألم يكن هذا أملك يا فتى

أحمد ـــ حقا كان هذا كل أملي يا سيدي .. ولكن كيف ووالدي ليس له عمل هناك .. ونحن فقراء .. و ..

الشيخ حمد ـــ كفى كلام واتبعني  .. ولا تعارضني .. ولا تسألني  عن شيء حتى تبدأ الرحلة..أتفهمني                                                                                                 
أحمد ـــ  أمرك يا سيدى

   ë    ë    ë

الفصل الثالث
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وجدتني أمشي ورائه وأنا غائب عن الدنيا.. وكأن الدهشة ألجمتني حتى عن التفكير في ضرورة انتظار أبي حتى أخذ منه الأذن للذهاب مع هذا الزائر الغريب الذي فاجأني.. وهو من علمني وعودني ويصر دائما على ألا أذهب على مكان من دون علمه حتي لا أقلقه على وحتي لا أتعرض لأي خطر من قبل الغرباء الذين لا نعرفهم..ولكن منظر الشيخ كان يوحي بالطمئنينة والثقة.. مما أشعرني أنه كجدي الذي يحكي لي أبي عنه دائما مما يجعلني كأنني أعرفة جيدا وإن كان قد توفي قبل مولدي..

مضى الشيخ الجليل  وأنا ورائه من غير كلمه ولا همسة إلى الخارج كما أمرني ولكني ذهلت لكوني لم أجد شارعنا الضيق ولا الأولاد الصغار الذين  يلعبون في جنباته كما هو معتاد في هذا الوقت من السنة مع بداية حلول الربيع والدفيء الذي يغزونا مع بداية أيامه اللطيفة ..                                                             

وبدلا منه وجدت حديقة بديعة فيها من كل أنواع ورود وزهور الدنيا الكثير والكثير.. الورد والفل والياسمين والبنفسج والقرنفل وغيرها..  وغيرها ..   وينابيع الماء تتخللها لتكون في نهاياتها بحيرات شاسعة..  ماؤها العذب  لونه ما بين  الفيروز الرائق والسماء الصافية .. وأشجار الفاكهة كانت متراصة بجانب بعضها ..عناقيدها تتدلى هنا وهناك بفاكهة ناضجة من كل الأصناف المحببة وأتساع الحديقة لا يستطيع أحد إدراكه بالعين المجردة .. فأطرافها ليست لها نهاية .. و عبيرها وكأنه أتي من السماء وليس صاعد إليها ..


بعد لحظات من وقوفنا بالحديقة التي تمنيت أن يدوم إلى الأبد من جمالها وروعتها التي تسلب الألباب.. أتت إلينا العربة التي دعاها الشيخ بإشارة من سبابته ولكني لم أعرف من أين أتت لتقلنا.. وفي لحظة وجدتها تقف أمامنا ولكنها كانت بالنسبة لي المفاجأة الكبرى ..

كانت العربة كبيرة جدا .. أكبر بكثير من عربة والد  نادر التي كانت بالنسبة لتلك العربة كخنفساء سوداء صغيرة ليس لها أي  قيمة .. لو كان نادر يرى هذه العربة لذاب خجلا من عربتهم الحقيرة التي يتفاخر بها علينا.. أنا وزملائي في المدرسة.                                           

أما تلك العربة الغريبة التي انشقت الأرض عنها فهي كبيرة جدا جدا ومن الفضة الخالصة.. ولذلك فهي شديدة اللمعان تحت أشعة الشمس الساطعة ..
كانت جدران العربة مقسمة بتشكيلات هندسية رائعة .. مثلثات ودوائر ومستطيلات ومتوازيات أضلاع وكلها في حركة سريعة مستمرة ولكن دون تداخل فيما بينها أو أعاقة لبعضهما .
                                                                                                  والغريب أن كان فوق سقف العربة ماسة كبيرة جدا.. كانت في  دورانها المستمر تشع بكل ألوان الطيف التي أعرفها ولا أعرفها.. ابتداء من اللون الأبيض إلى درجات الأحمر والأخضر والأزرق والأصفرومشتقا تهم  جميعا .. شيء ليس له مثيل .. لم أره في حياتي أبدا.. و مقبض كل باب منها كان لؤلؤة مضيئة.. بحجم البرتقالة الكبيرة إذا نظرت فيها وجدت صورة لبحر هادئ أمواجه كالوسادة الناعمة.. والعجب من كل هذا أنها كانت بلا سائق يقودها ..ومرسوم على  جانبيها  جناحين  من الذهب الأحمر  ينبعث من أطرافهما دخان أبيض   كثيف كالمنطلق من الصاروخ ذري أو الطائرة النفاثة..                                                                       

بعد دخولنا العربة الفضية التي كانت مبطنة  من الداخل برقائق  حمراء  جلدية          جميلة .. أحسست ببرودة شديدة ما لبثت أن تلاشت وحل محلها إحساس بالدفيء والطمأنينة..  أتساع العربة أدهشني .. كانت كساحة كبيرة .. بها مقعدين فقط .. وأمامهما كم هائل من الزرار الملونة  المضاءة ..بعضها يعطي إشارات بانقطاع الضوء ورجوعه بصورة مستمرة .. وبعضها الإضاءة به دائمة .. وأمام كل مقعد شاشة فضية ولكنها غير مضاءة .. أمرني الشيخ بالجلوس على أحد المقعدين وجلس هو على الأخر.. وأخبرني أن هذه الشاشة لا تعمل إلا إذا أمعنت النظر فيها وأنا أفكر في شخص معين فأني سوف أرى صورته فيها .. وقال أيضا..                                                   

الشيخ حمد ـــ وسوف تعرف منها أين هو وماذا يفعل في تلك اللحظة .. أو ماذا حدث له في الماضي .. أما المستقبل فلن ترى منه شيء لأن لا يعرف الغيب إلا الله.. هل فهمت هذا؟

 لذلك كان أعجب الأمور بالنسبة لي والذي أزهلني رؤية أمي التي كنت أفكر فيها في تلك اللحظة  في الشاشة عندما أمعنت النظر فيها .. رأيتها تجلس في رداء أبيض حريري مطرز بخيوط الذهب والفضة وتضع على رأسها تاج من الفل الأبيض الذي تتدلى عناقيده على جدائل شعرها  وحولها جمع كبير من الأطفال الصغار الغاية في الجمال والروعة .. كانوا في ملابسهم البيضاء الشفافة  وأغصان الزيتون بأيديهم كحمامات السلام المرسومة في كتاب الدراسات الاجتماعية.. أما هي فكانت تحدثهم وتحكي لهم قصة وهم ينصتوا لها باهتمام وفرحة.. عندما أدرت وجهي لأمسح دمعة سقطت من عيني من فرط شوقي إليها.. أغلقت الشاشة من تلقاء نفسها.. وغابت أمي.

لاحظ الشيخ العطوف دمعتي الصامتة على فراق أمي وبعدما غابت صورتها عني فطيب خاطري بكلمات رقيقة لم أسمع مثلها في حياتي وهو يربط على كتفي ويكاد يحتضنني من فرط أشفاقه على لوعتي..

الشيخ حمد ـــ ألا تحب الرسول صلى الله عليه وسلم يا أحمد وتريد به أن تقتدي وهو من شب يتيما صلى الله عليه وسلم منذ الصغر.. وألا تسأل نفسك هل كان الله ليحرم الرسول صلى الله عليه وسلم من أبويه إلا لحكمة لا يعلمها إلا هو .. وأليس عندنا جميعا اليقين التام بأن الله يحبه ويريد له الخير خاصا انه رسوله وحبيبه وهي الصفه التي من بها الله عليه لقدره وعلو شأنه عنده عز وجل

أحمد ـــ ومن منا لا يحب النبي صلى الله عليه وسلم.. ومن منا لا يريد به ان يقتدي..

الشيخ حمد ـــ بوركت يا بني .. إذن لماذا تحزن كل هذا الحزن الشديد لفقد أمك ..وهل انت الوحيد في الدنيا الذي حدث له هذا..     

أحمد ـــ رغما عني يا سيدي .. فقد كانت حنونة جدا وغاية في الطيبة .. ثم انها كانت أكثر الناس حبا لي .. فقدتها وأنا عمري ثماني سنوات .. كنت أريدها أن تبقي معي ولا تتركني .. فهل أكون أخطأت أو تجاوزت حدي

الشيخ حمد ـــ لا يا بني إطلاقا .. كلنا نحزن على فقد الحبة .. ولكن الذي يجب علينا هو الصبر والرضى بما قضاة الله علينا.. ويجب أن نوقن ان الله له الحكمة البالغة ولا يقدر لعبيدة إلا الخير حتي وأن كانوا هم لا يريدوا أو لا يدروا المغزى مما قضى.. ثم يدركوا بعد سنين أن قضاء الله هذا كان فيه كل الرحمة ..                                                                        
أحمد ـــ نعم يا سيدي..

الشيخ حمد ـــ ثم أنه من الواجب إذا حدثت للمرء مصيبة أن أولا يتصبر بأشياء عدة أولها أن هذه المصيبة لم تكن في الدين وإلا كان خسر الدنيا والآخرة.. ثانيا أنها لم تكن أكبر من ذلك.. ثالثا ان الصبر عليها سيكون جزائه الجنة ..رابعا أنها تهون بجانب مصيبه رحيل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم  ..  
                                                                        
أحمد ـــ عندك حق يا سيدي..

الشيخ حمد ـــ ثم الأمر الثاني يا أحمد هو أن هذا الشخص عليه أن ينظر إلى من هم دونه..فإن كان فقد أمه .. فينظر لمن فقد أمه وأبيه دفعة واحدة.. وإن كان فقد أمه وأبيه فلينظر لمن فقد كل عائلته.. وهكذا .. فبهذه الطريقة تهون عليه مصيبته..                                                                    
أحمد ـــ سأفعل يا سيدي .. والحمد لله أن عندي أبي..                    

مع جملتي الأخيرة وجدت أبي يظهر أمامي في تلك الشاشة العجيبة بعدما أمعنت النظر فيها لثواني وأنا أفكر فيه وماذا سيفعل عندما يعرف بغيابي..  ولكني فوجئت أنه لم يعد للبيت بعد ولم يعرف أني حرجت لتلك الرحلة من دون أذنه وأنه مازال في عمله في الشارع..ولكنه كان يقف بجوار سيارة الأجرة التي يعمل عليها وبجواره شخص في جلباب أبيض ملقى على الأرض وكأنه ميت وبجوار هذا الشخص حقيبة يد سوداء كبيرة وكأن والدي في حيرة من أمره لا يعرف ماذا يفعل .. فهو ينظر للرجل الممد تارة وللحقيبة السوداء تارة اخرى..

قلقت جدا على والدي وشعرت بقلبي ينخلع من صدري..ترى هل وقعت حادثة ..وهل صدم والدي هذا الممد على الأرض بلا حراك كالدمية .. وماذا سيفعل والدي في تلك المصيبة..مسكين يا أبي .. وهل هو الغلطان أم هذا الشخص هو الذي كان يعبر الطريق دون حذر من العربات التي تجري.. لكن قطع تفكيري وغيب صورة والدي من أمامي صوت رفيقي الشيخ الجليل في هذه الرحلة التي لم تكن على بالي ..

الشيخ حمد ـــ بالطبع يا أحمد .. وهذا ما حدث مع الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم .. فقد رحل أبوه عبد الله وهو لم يزل جنينا في بطن أمه لم يرى نور الدنيا وكفله بعد ولادته صلى الله عليه وسلم مع أمه الشريفة آمنة جده لأبيه عبد المطلب الذي كان من زعماء قبيلة قريش وأشرافها ..

أحمد ـــ أعرف ياسيدي .. وأعرف عنه أيضا أنه نذر إن رزق بأثني عشر ولدا سوف يذبح احدهم فجاءت القرعة علي عبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم وكان أحب الأبناء لقلبه ففداة بمائة من الأبل

الشيخ حمد ـــ رائع يا أحمد.. من أين أتيت بتلك المعلومات القيمة عن السيرة ؟

أحمد ـــ من الكتب يا سيدي ومن والدي الذي يقص دائما علي سيرة الرسول صلى الله علية وسلم كما كان والدة يفعل معه ..

  الشيخ حمد ـــ فعلا يا بني ليس افضل من العلم والمعرفة ..وأفضل العلم القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة وبعدهما سيرة النبي العطرة صلى الله عليه وسلم.. فمن أراد الله به خيرا فقة في الدين ..                               

أحمد ـــ أعرف هذا يا سيدي وأتمنى أن أكون منهم..

الشيخ حمد ـــ إن شاء الله يا احمد .. فأسعى لذلك فليس أفضل من مجالس العلماء.. تحفهم الملائكة ويرحم جليسهم وتشمله بركتهم وإن كان عابر سبيل ولم ياتي لطلب العلم خصيصا.ولأهمية العلم ولمنزلة العلماء كانت اول صورة نزلت على النبي الكريم " أقرأ بسم ربك الذي خلق ..خلق الأنسان من علق ..أقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الأنسان ما لم يعلم "   
               
أحمد ـــ وهل هذا خاص بعلوم الدين وحدها أم أنه ينطبق ايضا على علوم الدنيا كالطب والهندسة

الشيخ حمد ـــ بالطبع  ينطبق على كل العلوم وإن كان لعلوم الدين الفضل والأولويه.. فماذا تحب أنت من علوم الدنيا

أحمد ـــ أحب التاريخ والفزياء والكمياء والأحياء و..

الشيخ حمد ـــ كفى .. كفى ..أراك تحب كل علوم الدنيا ولكن في اي شيء تريد ان تتخصص وماذا تريد في المستقبل أن تصبح

أحمد ـــ أريد أن أصبح مهندسا

الشيخ حمد ـــ ولما

أحمد ـــ لإن والدي يريد هذا .. وطاعته واجبة .. وكي أبني أشياء كثيرة ومفيدة

الشيخ حمد ـــ مثل ماذا

أحمد ـــ منازل ومدارس ومساجد

الشيخ حمد ـــ جميل جدا يا أحمد.. إن شاء الله تحقق كل ما تتمنى..لكن المهم الأجتهاد والمصابرة..

أحمد ـــ سوف أبذل يا سيدي كل ما في أستطاعتي .. ولقد علمني والدي دعاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم كي يعينني على الفهم والتحصيل

الشيخ حمد ـــ  أسمعني يا بني

أحمد ـــ اللهم علمني ما ينفعني وأنفعني بما علمتني وزدني علما                

الشيخ حمد ـــ رائع يا بني أن تكون على هذا القدر من الوعي والثقافة والعلم ولهذا سوف اعطيك الجهاز الذي على شكل ساعة اليد هدية..إن نظرت فيها سوف تجد فيه كل المعلومات التي تريد معرفتها عن آى شيء أوآى شخص أو أي حدث تاريخي بما أنك شغوف للعلم والمعرفة .. كما أنه له نفس الخاصية التي في الجهاز الذي أمامك حيث أنك تستطيع أن تعرف  أين وكيف حال من ترغب وماذا يفعل في تلك اللحظة ..
أو ماذا حدث له في الماضي في أي فترة من فترات حياته بشرط أن تمعن النظرفيها  وأنت تفكرفيه.. أما المستقبل فلن ترى منه شيء لأن لا يعرف الغيب إلا الله..كما  أفهمتك من قبل .. ولكن ميزة هذا الجهاز أنه صغير الحجم فيمكن حمله معك إلى آى مكان تريده..ويمكنك أن تحتفظ به حتى بعد نهاية رحلتنا.. فهل يرضيك هذا ..

أحمد ـــ جدا ..جدا يا سيدي.. أنه شيء رائع ومزهل للغاية .. يكفي أني سأرى فيه أمي ..وهذا أكثر ما يسعدني ويهون علي حرماني الطويل منها.

ظهرت لي أمي الحبيبة مرة أخرى وأنا أنظر في الشاشة التي أمامي..فوجدتها قلقة .. تروح وتجيء في غرفتها وهي تدعو لأبي بالتوفيق لما يسعى غلية والسلامة..وظلت هكذا فترة وكأنها تنتظر من يأتي ليخبرها بشيء تنتظره بشدة..  ولكن بعودتي للتفكير في أبي المسكين وما حدث له في تلك الليلة أضاع صورة أمي مني .. ليظهر هو مرة أخرى .. ولكن في هذة المرة كان في البهو الكبير لأحد المستشفيات الكبرى ..يجلس على كرسي خشبي ويحتضن الحقيبة السوداء ذاتها وينظر بقلق بالغ إلى باب حجرة أمامه كتب عليها (أستقبال وطواريء) .. وكان في جلستة تلك كل فترة يرفع عينيه للسماء ويتمتم بدعاء خفي .. لم أتبين منه حرف .. فعدت بتفكيري لما أنا فيه من أحداث تجري من حولي..  
       
           
   ë    ë    ë

الفصل الرابع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كان من العجيب أن  عجلات العربة التي كانت تقلنا لم تكن موجودة .. وأتضح بعد ذلك أنها تتغير بتغير المكان الذي تسير عليه.. فإذا سارت على أرض الحديقة تحولت عجلاتها لأربع باقات من الورد العملاقة..وإن ارتفعت في الهواء أصبحت عجلاتها سحب بيضاء ناصعة تجري في السماء بسرعة هائلة.. وإن مرت على ماء تحولت عجلاتها تحتها لأمواج  هادرة تحركها يمينا ويسارا بخفة .. 
وبعد زوال دهشتي واستقرارنا في العربة صاح الشيخ                      

الشيخ حمد ـــ على بركة الله توكلنا
                                                                    
وبدأت السيارة في التحرك على الأرض  تارة وتسير على الماء تارة  وترتفع في الهواء تارة .. لتحلق بنا أخيرا  بين السحاب بسرعة كبيرة لفترة ولتتحول عجلاتها إلى ذلك السحاب الأبيض عالي السرعة .. ولكننا لو نشعر بهذه السرعة لثبات العربة  وعدم تمايلها .

عندما أصبحنا فوق السحاب خاطبني الشيخ بمودة ..

الشيخ حمد ـــ  الآن أسمح لك بالكلام وبسؤالي .. هل أنت فرح يا أحمد بهذه الرحلة 

أحمد ـــ جدا .. جدا يا شيخي

الشيخ حمد ـــ لماذا ؟

أحمد ـــ لأني أخيرا سأرى المدينة المنورة

الشيخ حمد ـــ وما تعرف عنها ؟

أحمد ـــ هي مدينة التي هاجر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما تعرض للأذى الشديد من الكفار في مكة                                                 

الشيخ حمد ـــ نعم وفيها أقام بعد الهجرة ليقيم فيها الدولة الإسلامية وينطلق منها للدعوة لدين الله.  وفيها دفن عليه الصلاة والسلام في بيت السيدة عائشة أم المؤمنتين بجوار المسجد النبوي  الشريف الذي يقع في مركز المدينة . هل تعرف كم كانت مساحته المسجد يوم بنائه ؟                                                                                                             

أحمد ـــ لا يا سيدي

الشيخ حمد ـــ كانت مساحته سبعون ذراعا وارتفاعه سبع أذرع

أحمد ـــ وما يساوي الذراع ؟

الشيخ حمد ـــ الذراع  يساوي ست وستون سنتيمتر وقد بنى الرسول المسجد وقتها يدا بيد مع الصحابة اللذين لهم خبرة بالبناء ليكون بناءه الطاهر مركز الدعوة إلى الله تعالى  وقد بنوه  من الطوب اللبن وغطوا سقفه بسعف النخيل والطين وجعلوا له ثلاث أبواب هم الموجودين للآن وهم باب جبريل وباب النساء وباب الرحمة وأستمر البناء لمدة سبعة أشهر. وهو من المساجد الذي يشد لها الرحال

أحمد ـــ وما يعني ذلك

الشيخ حمد ـــ يعني أنه من المساجد الواجب ومن المستحب السعي لزيارتها وهم ثلاثة..  قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا يشد الرحال إلا إلى ثلاثة مسجدي  هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى) وأفضل ما في المسجد الروضة الشريفة وهي ما بين بيته صلى الله عليه وسلم ومنبره قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة )

والمسجد  يضم الكثير من المعالم الهامة كالقبة الخضراء والروضة الشريفة والذي الصلاة فيه تعدل ألف صلاة ولا يسبقه في هذا إلا الصلاة في الكعبة التي تعدل مائة ألف صلاة . وقد دفن بعدها إلى جواره أثنين من أعظم الصحابة وأول وثاني الخلفاء الراشدين سيدنا أبو بكر الصديق وسيدنا عمر أبن الخطاب .

والمدينة هي من  أطهر  وأشرف وأقدس  بقاع الأرض  بعد مكة المكرمة وتلقب أيضا بطيبة الطيبة وهي حقا دار الإيمان الأولى وأحب البقاع لله تعالى حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند خروجه من مكة المكرمة بعد إيذاء المشركين له ولأتباعه من الصحابة ( اللهم إنك أخرجتني من أحب أرضك إلي فأنزلني إلى أحب أرضك إليك) . يشد إليها المسلمون الرحال للزيارة فمنها شع نور الإسلام  وانتشر حتى غمر ربوع الأرض التي كانت تغط في سبات الكفر والشرك معا. حرمها الرسول صلى الله علية وسلم  كما حرم سيدنا إبراهيم مكة المكرمة فأصبح المسجد النبوي بذلك ثاني الحرمين بعد الكعبة والذي يشد لهما الرحال دون غيرهم من المساجد الأخرى.. وهو ثاني أقدس واشرف مسجد للمسلمين بعد المسجد الحرام والمسجد  يقع في قلب المدينة وهو المكان الذي بركت فيه الناقة .. وهو مستطيل الشكل.. يتكون من عشر مآذن.. ويضم معالم كثيرة من أبرزها المنبر والروضة والحجرة والحائط المخمس والقبة الخضراء التي يوجد تحتها قبر النبي صلى الله علية وسلم ولكن هل تعرف يا أحمد ما هو ثالث الحرمين ؟

أحمد ـــ نعم .. المسجد الأقصى

الشيخ حمد ـــ فتح الله عليك يا بني وفك أسره من المغتصبين الظلمة ..

أحمد ـــ إن شاء الله  يا سيدي ..                                                       

الشيخ حمد ـــ وهناك مساجد أخرى في المدينة لها أهمية كبرى                         

أحمد ــــ مثل ماذا ياسيدي؟

الشيخ حمد ــــ مثل مسجد قباء وهو أول مسجد بني في الأسلام وشارك الرسول الكريم صلى الله علية وسلم في بنائه وهو في طريق هجرته من مكة للمدينة.. وهو يقع غرب المدينة المنورة وبينة وبين المسجد النبوي الشريف حوالي خمس كيلو مترا                                                                           
أحمد ــــ وماذا أيضا يا سيدي ؟

الشيخ حمد ــــ مسجد القبلتين وهو يقع فوق هضبة مرتفعة ويبعد عن المسجد النبوي الشريف حوالي خمسة أميال في الأتجاة الشمالي الغربي..وسمي هكذا لأن الصحابة رضوان الله عليهم صلوا فيه صلاة واحدة إلى قبلتين مختلفتين وذلك ان القبلة كانت في البداية ناحية بيت المقدس..ثم في العام الثاني للهجرة نزلت آية تحويل القبلة ..فلما أبلغ بها المصلون بالجامع بعد بداية صلاتهم تجاة بيت المقدس حولوا وجوههم فورا تجاة الكعبة واكملوا صلاتهم سمعا وطاعة لأمر الله ورسوله..

أحمد ــــ لكن كم ستستغرق هذه الرحلة

الشيخ حمد ـــ ليس كثيرا .. فالمدينة تقع شرق البحر الأحمر وتبعد عنة حوالي 150 كم ومساحتها حوالي 600 كم.. وكانت قد تأسست 1500 عاما قبل الهجرة .. وهي واحة صحراوية محاطة بالجبال ويحدها من الشمال جبل أحد الذي دارت عليه موقعة أحد الشهيرة في السنة الثالثة للهجرة..والتي أستشهد فيها عم الرسول صلى الله علية وسلم الملقب بأسد الله حمزة أبن عبد المطلب.. والتي هزم فيها المسلمون بعدما أذاقهم الله النصر لأنهم لم يطيعوا أمر رسول الله وترك الرماة أماكنهم ظناً منهم  أن النصر أستتب لهم وتعجلوا النزول من على جبل صغير يقع بجانب جبل أحد ويبعد عنه  ميلا واحدا تقريبا وسمي بجبل الرماة بعد هذة الحادثة الشهيرة..

أحمد ـــ ولهذا نحن مأمورون بأن نطيع دائما أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم

الشيخ حمد ـــ نعم يا بني ومن لم يطيعه لابد وان يمنى بالخيبة والفشل .. ولهذا علينا دائما الالتزام بما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة ..         

أحمد ـــ وما شكل المدينة                                                                                         
 الشيخ حمد ـــ  المدينة يا بني  يتخللها ويحيطها أيضا وديان وسهول كثيرة.. وسكنها  قديما حوالي عام 450 ميلاديا اثنتين من القبائل العربية هما الأوس  والخزرج كانوا أتوا إلى الجزيرة من اليمن بعد سيل العرم ..أى قبل وصول اليهود الفارين من حكم الملك بختنصر بحوالي 136 عاما  و تشكلوا في قبيلتين هما  بنو قريظة  وبنو قينقاع  وقام حلف بين القبائل وبعضها على أن يعيشوا في سلام ومحبة ولكن اليهود كما هو عهدهم دائما لا يصونوا عهدا ولا ميثاقا فنقضوا ميثاقهم وخانوا عهدهم  بل وأشعلوا الفتنة بين الأوس والخزرج بالوقيعة بينهم  فقامت بين القبيلتين حروب استمرت حوالي 120 عاما ولم تنتهي إلا بوصول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مهاجرا إلى المدينة.

أحمد ـــ ولماذا ترك الرسول صلى الله عليه وسلم مكة وهاجر إلى المدينة؟       

الشيخ حمد ــــ عندما بعث الرسول صلى الله علية وسلم في مكة وبدأ يدعوا الناس إلى دين الله.. أستشاط سادة قريش غضبا وبدأوا في تعذيب المؤمنيين خاصة العبيد منهم والضعفاء لأحباط هذة الدعوة الجديدة ووئدها في مهدها قبل أن تنتشر داخل مكة وخارجها..وقرر الرسول الكريم صلى الله علية وسلم الهجرة إلى المدينة وأمر بها أتباعة بعدما أتفق مع وفد قبيلتي الأوس والخزرج على حمايتة ونصرتة .. فبدأ المسلمون في الخروج من مكة مثنى وفردى.. إلى أن خرج أغلب المسلمين .. ولم يبقى غير القليل.. والرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق وعلي بن أبي طالب
وأجمعت القبائل على قتل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم..فوقفوا على باب بيته ينتظروا خروجه ولكن الله نجاه منهم .. وأعمى أبصارهم..فخرج عليهم ووضع التراب على رؤسهم وهم نيام تاركا  علي بن أبي طالب كرم الله وجهه نائما في فراشه ليرد ما كان عندة من أمانات إلى أصحابها..

وتمنى أبوبكر رضي الله عنه صحبه الرسول صلى الله عليه وسلم فمن الله عليه بهذا .. وصحب الرسول في رحلة الهجرة من مكة إلى المدينة وكان اسمها في الماضي يثرب .. فنهى الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين من استخدام اسمها القديم.. لتصبح المدينة المنورة و لتصبح نواة الأمة الأسلامية وعاصماتها ودرة الجزيرة العربية.. وآخى بين المهاجرين والأنصار وعقد المعاهدات مع القبائل اليهودية ولكنهم نقضوا العهود وتأمروا ضدد الأسلام والمسلميين فحاربهم الرسول صلى الله عليه وسلم وطردهم منها وطهرها من شرهم ورجسهم .. فعاشت حرة عزيزة..
وعاش بها الرسول الكريم صلى الله علية وسلم حتى توفى في السنة الحادية عشر من الهجرة..

ولقد أنطلقت من المدينة كل غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم لنشر الدين القويم بين ربوع الجزيرة العربية..

وبعد وفاة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ظلت المدينة المنورة عاصمة الأمة الأسلامية ودار الخلافة  ودرتها وعاشت أزهى عصورها في عهد الخلفاء الراشدين أبوبكر الصديق رضي الله عنه .. الذي قضى على المرتدين الذين امتنعوا عن إداء الزكاة في حروب الردة التي كان فارسها المظفر سيف الله المسلول خالد بن الوليد..
و عمر بن الخطاب  رضي الله عنه الذي فتحت الشام ومصر وبلاد فارس في عهده رضي الله عنه ..وعثمان بن عفان رضي الله عنه الذي أمتدت الفتوحات السلامية في عهده أكثر واكثر .. وعلي بن ابى طالب كرم الله وجهه..


من بعيد رأيت هالة من النور كبيرة حولها أنوار كثيرة ككوكب دري  في ليلة مقمرة تطوف حوله النجوم في صفوف مستديرة فهلل الشيخ وقال

الشيخ حمد ـــ الحمد لله وصلنا

   ë    ë    ë

الفصل الخامس
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كان الجو صافي والعطر الذي يعبق المكان يجعله كالجنة المورقة وكأن كل أزهار ورياحين الدنيا جمعت له بالجملة وصفي منها رحيق مصفى لم أشعر به في أنفي فقط بل في فمي وحلقي وكأني طعمت منه وجبة كاملة ..مشبعة..

حطت  العربة الفضية إلى الأرض بسكينة وروية وبدأت أجنحتها الذهبية الذرية في سحب أبخرتها رويدا رويدا .. ليهدأ كل شيء حولنا ألا من صوت تسابيح ملائكية توحد الله وتكبره وتحمده .. فأنار وجه الشيخ واستدار بابتسامة رضا عذبة وقال بصوت يشع بشرا وفرحة كالعائد لوطنه الحبيب بعد طول غيبة موجها حديثة للفضاء وكأن معنا آخرين لا نراهم يحيطونا ويرعونا وينتظروا منا أن نطمئنهم علينا

الشيخ حمد ـــ الحمد لله على السلامة

نزل الشيخ أولا وأنا في أثره متلفتا منبهرا.. ما كل هذا .. حشد من الفتيان المرتدين البياض كالشيخ تماما في استقبالنا وليس على لسانهم إلا :

مجموعة الشباب ـــ أهلا يا شيخنا .. أهلا يا شيخنا

بعد الاستقبال الحافل وتبادل التحية عرفهم الشيخ علي

الشيخ حمد ـــ هذا هو أبننا أحمد .. الذي أخترته كي يصحبني هذه المرة.. وهو حفيد للشيخ حامد .. والخير كما تعلموا يبقى للأبناء و الحفدة .

أسعدني جدا.. جدا  تقديمي لهذا الجمع الكريم بهذه الطريقة وكأني لست حفيد الشيخ حامد الرجل البسيط الذي ما ملك من حطام الدنيا إلا السيرة الطيبة.. ولا أبن الشيخ محمد الموظف البسيط نهارا والذي يكد ليلا ونهارا لتوفير اللقمة .. بل كأني حفيد لأحد الملوك أو أبن لأحد أمراء الدولة .      
آه .. لو كان نادر هنا.. لعرف مقامي ولأكبرني بدل من استهانته بي لفقري ولرقة حالي .. لو كان معي ما يثبت هذا اللقاء التاريخي.. لكن للأسف .. أنا أستطيع معرفة مكانه الآن وماذا يفعل .. لكن هو لا يستطيع أن يراني..               

وجدتني أنظر في الساعة التي أعطانيه الشيخ  وأنا أفكر في هذا الصديق الذي فاجئني اليوم بغرورة وكبره .. فوجدته بين جمع من أصدقاء المدرسة يقص عليهم حكاية سفره القادم مع والده إلى السعودية وكيف أنه سيصبح أغنى فتى في هذه المنطقة بعد عمل والده بالمدينة المنورة .. وانه ما جمعهم الآن إلا ليودعهم لأنه لن يستطيع البقاء على صدقاتهم لأنه سيصبح قريبا جدا في مستوى مادي واجتماعي أعلى منهم بكثير .. وكيف أنه سيترك المكان وينسى الزمان الذي جمعه بهم.. فلهم الله هؤلاء الفقراء المساكين بعد غياب هذا العبقري من دنياهم .. ومع ذلك يذكره خالد صديقي الودود والبشوش دائما بأدب  ولطف..

خالد ـــ قول إن شاء الله

نادرـــ ولماذا .. لقد حدث بالفعل ونحن مسافرون بعد أيام إليها

خالد ـــ ولكن يجب أن تقول إن شاء الله .. أما سمعت قول الله تعالى (ولا تقولن لشيء أني فاعل ذلك غدا . إلا أن يشاء الله .. )

مسكين يا نادر .. سلبه موضوع السفر كل تفكيره .. وزاده كبرا وغرورا .. وإن كنا لاحظنا جميعا تلك الخصلة فيه من البداية  ولكنها لم تكن بهذه الدرجة .. لم يكن على لسانه  في كل مناسبة غير أنا .. أنا .. ويتبعها سيل من الصفات المبالغ فيها والتي قد تكون أصلا فيه غير موجودة..

نادرـــ أنا الأكثر ذكاء  والأكثر جمالا والأكثر حسبا والأكثر غنى ولكنكم لا تريدوا الاعتراف بذلك غيرة وحسدا .. هكذا أنتم لا تحبوا من هو أعلى منكم .. لكني الأفضل والأعلى.. وسوف أزيد بسفر أبي علوا في الأيام القادمة ..  

هذا الكلام جعل مجموعة الأصدقاء ينظروا إليه في تعجب ودهشة من أنقلاب حالة في يوم وليلة.. وجعلهم ينفضوا من حولة من شدة ما سبب لهم من ضيق وخنقة..                                                                     

عدت بتفكيري للجمع الكريم الذي يحيطني تاركا ورائي نادر في حلم الثراء الوردي الذي سيطر على تفكيرة فجعله يهذي .. وأصدقائي في دهشتهم منه وتهكمهم عليه..ثم تركهم له والبعد عنه لينشغلوا كل بما يحلوا له ..فبعضهم همه كرة القدم وبعضهم همه قرأة الألغاز وبعضهم همه الحصول على أى طعام يسد به أجهاد يوم طويل من الدراسة والجري واللعب.. فسار كل في طريقه.. كما سرت أنا مع تلك الرفقة الرائعة..

   ë    ë    ë

الفصل السادس
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
       
الشيخ حمد ـــ نحن الآن في طريقنا للمسجد النبوي الشريف يا أحمد وها هي المدينة المنورة فهل تعرف فضلها أم أخبرك أنا ..

أحمد ـــ أخبرني يا سيدي كي أتعلم منك.. فلا بد وأن كان عندي بعض المعلومات من الكتب الدراسية إلا أن ما عندك من علم أكثر وأفضل وأعمق لفرق السن والدراسة والخبرة

الشيخ حمد ـــ بوركت يابني ..ففيك من التواضع ودماثة الخلق والحرص على تحصيل المعرفة ما يؤهلانك لأن تكون في المستقبل شيئا عظيما..  
 فضل المدينة يتمثل يا أحمد في حرمتها وبركتها وحفظ الله لها و فضل الإقامة بها

 أحمد ـــ فما حرمتها يا سيدي ؟

الشيخ حمد ـــ أما حرمتها فأن الرسول صلى الله عليه وسلم حرمها كما حرم سيدنا إبراهيم مكة المكرمة.. قال صلى الله عليه وسلم ( اللهم إني أحرم ما بين جبليها مثل ما حرم إبراهيم مكة ) فلا يقطع شجرها ولا يقتل صيدها .. فمن فعل فيها هذا  لعنه الله والملائكة والناس أجمعين

أحمد ـــ وما بركتها ؟

الشيخ حمد ـــ أما بركتها فهو دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لأهلها بالبركة .. .. قال صلى الله عليه وسلم ( اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما بمكة من بركة) وقال صلى الله عليه وسلم (اللهم بارك لهم في مدهم و صاعهم) فحصلت البركة من الله تعالى نتيجة لهذا الدعاء الطيب المبارك

أحمد ـــ وما حفظ الله تعالى لها  ؟

الشيخ حمد ـــ  أما حفظ الله تعالى لها  فان الله قد حفظها من الأوبئة و المنافقين والكفرة قال صلى الله عليه وسلم ( على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال )

أحمد ـــ وما فضل الإقامة بها  ؟

الشيخ حمد ـــ لقد اختصت المدينة المنورة بمكانة عظيمة ميزتها عن سائر البلدان والمدن الأخرى .. فقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الذي سيصبر على العيش فيها سوف يكون الرسول صلى الله عليه وسلم له شفيعا وشهيدا يوم القيامة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من جاء مسجدي هذا لم يأته إلا بخير يتعلمه أو يعلمه فهو بمنزلة المجاهد في سبيل الله ) . كما جدك يا أحمد

أحمد ـــ جدي الشيخ حامد

الشيخ حمد ـــ نعم .. لكن هيا الآن لمسجد الرسول صلى الله عليه وسلم أولا..

مشيت ورائه في سكينة وكلما اقتربنا من المسجد النبوي الشريف أزداد فؤادي لهفة .. وكان خلفنا تمشي تلك الكوكبة المضيئة .. وكلما أقتربنا ذادت أنوار المسجد تلألأء وشدة حتي يخيل لمن يراة أنه كوكب درى سابح في السماء الدنيا

 أول شيء فعلناه عند دخول المسجد النبوي الشريف هو الصلاة ركعتين تحية للمسجد ثم توجهنا للوقوف بقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في أدب وسكينة ووقار كما أخبرنا الشيخ من قبل ذلك و أن علينا أيضا أن نكون في غاية  النظافة والجمال في المظهر والملبس مما يليق بمقام ساكنه صلى الله عليه وسلم . ورددنا وراء الشيخ ودموعنا تجري كالسيل

الشيخ حمد ــــ السلام عليك ورحمة الله وبركاته يا رسول الله..السلام عليك ورحمة الله وبركاتة يا حبيب الله..

ظللنا على هذا الحال أكثر من ساعة.. ما بين الدعاء والبكاء والصلاة على أشرف خلق الله صلى الله عليه وسلم..


  كان وجودي داخل المسجد النبوي كحلم رائع يشع نورا وبهجة .. أكثرت فية من الصلاة على النبي صلى الله علية وسلم والسلام عليه ..فإذا سلمنا علية صلى الله عليه وسلم رد علينا السلام كما أخبرني شيخي.. وأكثرت ايضا من الدعاء لى ولوالدي وروح أمي الحبيبة بالرحمة والجنة ولجدي وجدتي لكل من أمي وأبي ولكل أهلي وأصدقائي ولشيخي الجليل الذي أصطحبني ورفقتي.. وودت الا أترك المسجد وأظل به إلى أخر عمري.. فالوجود به راحة وسكينة لم أشعر بهما في اي مكان أخر..
لكن دوما الساعات الجميلة قصيرة ..

أمرنا الشيخ بالأستعداد للرحيل.. فخرجنا جميعنا من المسجد باكين كالمفارق أعز من له في الدنيا.. ومضي الشيخ في طريقه للخارج  وهو يمسح دموعه.. ونظر إلي موجها كلامه لي..

الشيخ حمد ـــ  المسجد في ديننا الإسلامي يا أحمد له شأن عظيم ومكانة عالية كما سنه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ وصوله إلى المدينة.. لم يجعله فقط للصلاة والعبادة تقربا لله تعالى بل جعله أيضا مكان لإدارة الدولة الوليدة ولتحضير الجيوش والنظر في القضايا الهامة التي تخص شؤون المسلمين.

 فما أن وصل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى المدينة حتى أمر ببنائه فورا.. وتخير له أرضا كان بها نخل ليتيمين بالمدينة من بني النجار يدعيان سهل و سهيل.. ولم يرضى صلى  الله عليه وسلم إلا أن يشتريها منهما لعلمه بحاجتهما الشديدة إلى المال مع أنهما عرضا أن يهبها له صلى الله عليه وسلم بدون مال..                                                                

 ودعنا الجميع الذي دعانا كل منهم لبيته بألحاح وشدة ..ولكن الشيخ اعتزر للجميع بضيق الوقت وبعد المسافة ورغبته في زيارة جدي قبل العودة..فتبعته وانا صامت متأذي من حزن الرفاق الفائق لأنتهاء الزيارة والصحبة ..

الشيخ حمد ـــ الآن سنذهب إلى جدك يا أحمد.. فهيا..

وجدتنا نسير في طريق طويل من الرمال ..قرأت على لوحة كبيرة في بدايته كلمة ( إلى البقيع ).. وأخذنا نسير ونسير إلى أن ظهرت فجاة أمامنا شجرة كبيرة مورقة.. ظلها يمتد علي الأرض الرملية لمسافة كبيرة ويحجب اشعة الشمس القاسية عن تتك المنطقة التي تظلها باوراقها وفروعها..
أخذ الشيخ يجد في المشي كي يصل إلى تلك الشجرة وينادي علي

الشيخ حمد ــــ هيا يا أحمد .. هيا..

أخيرا وبعد عناء وصلنا وأخذنا نلف حول الشجرة ونشرب من ماء البئر الذي بجانبها الذي كان باردا وفي غاية العزوبة. ونسكب منه على وجوهنا وأيدينا.وبعدها لا أدري ما الذي حدث ..غير أني ارتميت على الرمال ورحت في نوم عميق ..أقرب للغيبوبة..
ولم أدري كم من الوقت ظللت نائم غير اني عندما أفقت لم أجد الشيخ الجليل الذي أصطحبني في الرحلة.. ولكني وجدت شيخا أخر يشبة ابي تماما ولكن كان اكبرمنه سنا.. بدأني بالأبتسام وبقول..

الشيخ حامد ــــ حمد الله على السلامة يا أبني

أحمد ـــ الله يسلمك .. كم من الوقت نمت .. وأين الشيخ

الشيخ حامد ـــ ذهب يحضر بعض الأغراض وسيأتي.. ألا تعرفني يا أحمد؟ أنا جدك ..

أحمد ــــ جدي .. جدي .. يا حبيبي يا جدي ..

وجدتني أرتمى في حضنه وأقبلة بشدة وأبكي.. وهو يقبلني ويردد

الشيخ حامد ـــ يا حبيبي يا أبني .. يا حبيبي يا أبني..

أحمد ـــ ماذا تفعل هنا يا جدي ؟ ولماذا لا تاتي وتعيش معنا؟و..

الشيخ حامد ــــ لقد أحببت هنا ..ورغبت في  العيش والموت هنا يا ولدي .. فلا أريد أرضا سوى المدينة المنورة ولا ارضى بغيرها دارا..

أحمد ـــ ونحن يا جدي .. تتركنا

الشيخ حامد ـــ أنتم سوف تأتوا قريبا .. مثلي.. لتعيشوا معي

أحمد ـــ حقا

وجدتني أفكر في نادر وأنظر في ساعتي .. ليتني أستطيع أن أخبرة أنني أنا ايضا سوف اعيش في المدينة المنورة أنا ووالدي ولكن العجيب أني رأيتة يجلس في حجرتة مهموم يبكي .. لماذا يا نادر .. لا بأس عليك يا صديقي .. ما الذي حدث في هذه الساعات القليلة التي تركتك فيها حتى تحزن هكذا.. وما الذي يجعلك تبكي ..
كادت الحيرة تقتلني .. وبدأت الوساوس تراودني..هل أصاب أحد من أسرتة مكروة ..أم فقد شيء غالي..لا أدري
أخرجني من حيرتي صوت جدي وأختفاء صورة نادر من أمامي..

الشيخ حامد ـــ لقد جئت مكة سنة 1972أي قبل ولادتك بسنة واحدة..جئت للحج والعمرة ولكن بعد أنتهاء فرائض الحج وعند وصولي للمدينة المنورة أكتشفت ضياع حقيبتي وفيها كل متاعي وكل ما معي من مال.. فلم أعرف ماذا أفعل .. وأصابني هم شديد.. ولكني وجدت محفظة تخص  أحد شيوخ  المدينة  الكبار مقاما وقيمة وبها مال كثير فبحثت عنة حتي رددتها له فأخذ يربط على كتفي ويشكرني ويمتدح أمانتي ولما علم بحالي وضياع مالي أخذ يقول لي لا تحزن وأخذني من يدي وذهب بي إلى بيتة وأطعمني وكساني وأعطاني من ماله ما يعينني على مواصلة رحلتي والعودة لمصر ولكني كنت قد أحببت المدينة وأحببته ياولدي وتمنيت ألا أغادر مكاني .. شعر الشيخ راجح بما يدور في نفسي فقال

الشيخ راجح ـــ تريد البقاء يا شيخ حامد

 الشيخ حامد ـــ نعم يا شيخ راجح والله.. لا أريد ترك المدينة ولو أعطوني كنوز الدنيا

الشيخ راجح ـــ إذن أبق معنا.. وأبعث لأهلك يأتونا ..

الشيخ حامد ـــ وماذا أعمل هنا وأنا شيخ كبير

الشيخ راجح ـــ ستعمل معي في تجارتي ..

الشيخ حامد ـــ ولكني لم أعمل بالتجارة أبدا ..ولم أتعلم غير حفظ القرآن .. والأحاديث النبوية..

الشيخ راجح ـــ إذن أنت تعلم كل شيئ في الدنيا والأخرة .. من كان يريد الدنيا فعلية بالقرآن ومن كان يريد الأخرة فعلية بالقرآن ومن كان يريدهما معا فعلية بالقرآن..

وبقيت ياولدي وعشت أنا والشيخ راجح كأخلص وأحب أخوين في الدنيا وكان لي بمثابة الأخ الشقيق وأكثر.. فأهل المدينة يمتازوا بالطيبة والدعة ونصرة المظلوم وإكرام الضيف .. أليسوا هم من نصروا وأووا  الرسول الكريم صلوات الله عليه وسلامه وأصحابه المهاجرين بعد تركهم مكة وفيها كل متاعهم وأموالهم وخرجوا منها جوعي عرايا.. بعضهم لا يجد ما يسد رمقه أو يستر جسده .. فأستقبلهم أهل المدينة الذين أسماهم الرسول بعد ذلك الأنصار بالترحاب والمودة فآخى الرسول صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار بعضهم بعضا .. فأصبح الأنصار يؤثروا على أنفسهم ولو بهم خصاصة لدرجة كان الأنصاري يريد أن يقتسم بيته وماله مع أخيه المهاجر.                                                              

 وكنت سأبعث بعد ذلك لأبيك ليأتي ليعيش معي كرغبة الشيخ راجح..ولكني تذكرت أن  أمك كانت حامل فيك.. وأنهم لن يستطيعوا المجيء إلا بعد أن تضعك أيها الغالي .. وكان للشيخ أبن في عمر أبيك أسمة سالم كانت أيضا زوجته حامل.. ومن يومها لو نفترق أنا والشيخ راجح وها نحن نعيش هنا مع باقي أحبابنا وأخواننا.. أنظر ياولدي هذة هي صورته ..

أخذت أنظر في الصورة .. وللعجب وجدت من فيها  يشبة جدي تماما .. هو جدي لا محالة.. أستدرت أستفهم من جدي عن هذا التشابة الشديد بينه وبين الشيخ راجح فما وجدته .. كان قد اختفى .. ظللت أدور حول نفسي وأنادي.. جدي ..جدي .. ولا من مجيب ولكني وجدت الشيخ حمد الذي أصطحبني من مصر أتي من بعيد..فأطمأن قلبي..

الشيخ حمد ـــ وما العجيب في ذلك يا أحمد..

أحمد ـــ كأنهما واحد

الشيخ حامد ـــ المؤمنون أخوة

أحمد ـــ أخبرني جدي أني سوف أتي مع أبي لنعيش معه .. كما سيأتي نادر

الشيخ حمد ـــ أنت سوف تأتي لكن نادر يا ولدي لن يأتي ..

أحمد ـــ كيف هذا ؟ لماذا يا شيخي؟

الشيخ حمد ـــ لأنه أغتر وتكبر.. والكبر يا أحمد من أكبر الذنوب التي يقع فيها البشر ..أليس الكبر هو ما أخرج الشيطان من رحمة ربه ..قال مقارنا نفسة بأبينا أدم ( أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ) فغضب عليه رب العزة .. وطرده من الجنة وحرمه من رحمتة تعالى وحرم عليه الجنة..
إن الله يحب أن نتواضع له .. والتواضع سبب الرفعة في الدنيا والآخرة
وسبب المحبة بين الخلائق .. والتواضع من أخلاق الرسل والنبياء وشيم الكرماء والنبلاء..


والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كان أكثر الأنبياء تواضعا.. فقد كان صلى الله عليه وسلم على خلق عظيم..  كان صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين ..كان رقيق القلب ورحيم..يبدأ من لقيه بالسلام ويجيب دعوة من دعاه حتى ولوكان أفقر الناس.. ولو كانت الدعوة على خبز الشعير ..وكان يخدم أهله.. ويلاطفهم ويداعبهم.. ولم ينهر يوما  خادما أو عبدا..       

وكان عليه الصلاة والسلام يقول أنا أبن أمرأة من قريش كانت تأكل القديد..وكان يجلس على الأرض وعلى الحصير..وكان لا ينزع يده الكريمة من يد من يصافحه حتي ينزع الرجل يده .. ولا يصرف وجهه الكريم من وجهه حتى يكون الرجل هو من يصرفه ..وكان يستشير أصحابه ويأخذ برأيهم ..ويامرهم ألا يقوموا له غذا دخل عليهم ..وفي غزوة الخندق كان ينقل التراب حتى تعفرت بطنه الكريمة ..وكان يزور المرضى والمساكين ..ولا يأنف ولا يستكبر أن يمشي مع الأرامل والمساكين حتى يقضي لهم حاجاتهم.. ويسلم على الصبيان.. ويعطف عليهم ويمسح رؤوسهم..وكان صلى الله عليه وسلم يخيط نعله وثوبه..

والمتكبر مكروة  من العبد ومن الرب .. فيرى أنه افضل من غيره ولا يرى للناس فضل عليه..
ولهذا  فالتواضع أن ترى لكل مسلم عليك فضلا..
فالمتكبر وضيع وإن رأى نفسه مرتفعا بجاة أو مال أو سمعة..والمتواضع رفيع الشأن والقدر.. وحتى ولو كان اقل الناس قدرا..  

.. وصل إلى مسامعي فجأة صوت يقول (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) ..       
  أعدت نظري لصورة الشيخ راجح فوجدته يشبه فعلا جدي ولكن تلك المرة كانت هنال أختلافات بسيطة بينهما .. وكانهما شقيقان ..

الشيخ حمد ـــ هيا يا أحمد .. حان وقت العودة..

في لحظة وجدتنا عدنا إلى ساحة المسجد النبوي الشريف ..وظللت أتلفت حولي ..لأملي عيني من كل ركن فيه .. رأيت جمال فاق الوصف .. وشعرت براحة لم أشعرها من قبل ..

بعد تركي المسجد بدموع عيني وجدت  تلك العربة الغريبة التي انشقت الأرض عنها  مرة ثانية ..لكن كانت هذة المرة أكثركبرا وفضتها الخالصة أكثر لمعان وإن كان الوقت أصبح ليلا..

كانت جدران العربة مقسمة بتشكيلات هندسية رائعة .. مثلثات ودوائر ومستطيلات ومتوازيات أضلاع وكلها في حركة سريعة مستمرة ولكن دون تداخل فيما بينها أو أعاقة لبعضهما ، والماسة الكبيرة فوق سقف العربة ..  في  دورانها المستمر تشع بكل ألوان الطيف التي أعرفها ولا أعرفها.. ابتداء من اللون الأبيض إلى درجات الأحمر والأخضر والأزرق والأصفر ومشتقا تهم  جميعا .. شيء ليس له مثيل .. لم أره في حياتي أبدا.. و مقابضها التي على شكل  لألئ مضيئة.. بحجم البرتقال الكبير إذا نظرت فيها وجدت صورة لبحر هادئ أمواجه كالوسادة الناعمة.. والعجب من كل هذا أنها كانت بلا سائق يقودها .. جناحيها اللذان   من الذهب الأحمر  ينبعث من أطرافهما دخان أبيض   كثيف كالمنطلق من الصاروخ ذري أو الطائرة النفاثة..                                                                        

وكما في رحلة المجيء بعد دخولنا العربة الفضية التي كانت مبطنة  من الداخل برقائق  حمراء  جلدية جميلة .. أحسست ببرودة شديدة ما لبثت أن تلاشت وحل محلها إحساس بالدفيء والطمأنينة..  لكن أتساع العربة هذة المرة لم يدهشني ..فبالرغم أنها  كانت كالساحة الكبيرة .. كنت قد تعوت عليها ..جلسنا على  المقعدين  .. وأمام الكم الهائل من األزرار الملونة  المضاءة ..بعضها يعطي إشارات بانقطاع الضوء ورجوعه بصورة مستمرة .. وبعضها الإضاءة به دائمة .. وأمام الشاشة الفضية  الغير مضاءة .. وجدتني أنظر فيها .. وفيها ظهرت أمي الحبيبة للمرة الأخيرة ولكن تلك المرة كان معها جدي .. وهم يتحدثان بفرحة ويضحكان ..

بعدها بدأ اللآذان.. الذي كان عاليا بحيث لم يجعلني أشعر بدخول أبي.

والد أحمد ـــ ألازلت نائم يا أحمد؟.. لقد تجاوزنا منتصف الليل بكثير وأنت ما تناولت غذائك بعد .. كيف نمت كل هذا؟.. هل أنت مريض ؟ طمئني يا ولدي ..

فتحت عيني أبحث عن الشيخ حمد في كل مكان حولي وأخيرا أفقت وأدركت أني كنت أحلم وان كل ماشهدته لم يكن حقيقي..غير أن الحقيبة السوداء في يد أبي حيرتني ولفتت نظري..فوجدتني أساله عنها وما فيها..

والد أحمد ـــ أنها قصة طويلة يا أحمد .. بعد يوم طويل من العمل المضني وفي طريق عودتي بالتاكسي وجدت فجاة أمامي جسد ملقى على الجانب الآخر من الطريق الجانبي.. أرتعبت .. وكدت أمضي في طريقي .. ولكن كيف ياولدي أترك من يمكن أن يكون في أمس الحاجة لمساعدتي.. وجدتني أهرع إليه .. كان مصابا أصابة بالغة بعدما صدمتة سيارة مسرعة ..ولكن الحمد الله وجدته مازال يتنفس فحملتة لأقرب مستشفي حيث قاموا بأجراء عملية سريعة في ساقه لأنقاذها وأحتاجوا لنقل دم له فأعطيته من دمى بعد أن تأكدنا أن فصيلة دمي مثل فصيلة دمه..وظللت بجانبه إلى أن أفاق ..وكان كل همي المحافظة على حياته وماله الذي وجدته ملقى على الأرض بجانبه في هذه الحقيبة..والذي أصر أن أحضرها معي إلى المنزل والا أتركها في أمانات المستشفى إلى أن يشفى ويخرج بالسلامة وقال وهو يشكرني:
       
الشيخ سالم ـــ  من كان حريصا على إنقاذ حياتى لن يضيع مالي

هذا سبب تأخيري عليك ياولدي .. وأحمد الله الذي جعلني سببا في أنقاذ هذا الأخ الشقيق من السعودية .. فقد جاء الشيخ سالم لمصر في زيارة عمل .. ولتوسيع حجم معاملتة مع بعض شركات المقولات المصرية.. وسوف نذهب أنا وأنت إليه غدا بعد اليوم الدراسي للأطمئنان عليه ونرى إن كان يحتاج لأي شيء نستطيع أن نقوم به..ولنعيد إليه ماله إن شاء الله


   ë    ë    ë

الفصل السابع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 
ذهبت في اليوم التالي للمدرسة فوجدت صديقي نادر علي غير عادته..كان في غاية الحزن والكآبة.

أحمد ــــ ماذا حدث يا نادر .. أخبرني ..يحزنني ان أراك هكذا

نادر ـــ لا شيء

أحمد ــــ كيف لا شيء .. قل لي قد أستطيع مساعدتك

نادر ـــ لن يسافر أبي  إلى المدينة المنورة..

أحمد ــــ ولماذا.. ألم تقل انه أفضل مهندس .. ولن يجدوا في المتقدمين لهم من هو أكثر ذكاءا وخبرة

نادر ـــ نعم .. بالفعل هو أبي كذلك .. ليس مثله احد ..هو أمهر وأعظم المهندسين .. ومع ذلك اختاروا مهندس آخر ..أدعوا أنه أفضل من أبي ..
لا اعرف كيف حدث هذا..

أحمد ـــ لا تحزن يا نادر .. عل الله يريد لأبيك خيرا في مكان أخر..

نادر ـــ آي خير هذا .. كنا سنصبح أغنياء جدا ..وكنت سوف أشتري اشياء ليست عند احدكم ولم تسمعوا حتى عنها..

ظل نادر في حزنه طول اليوم بالرغم من محاولاتي أنا وخالد وباقي الأصدقاء في التخفيف عنه وإخراجه مما هو فيه لكن دون جدوى 

عدت إلى منزلي وأنا حزين ومهموم من اجل صديقي نادر وتعجبت لمصادفة تطابق حلمي بالأمس مع تلك الواقعة التي حدثت لنادر وجاءت مطابقة لكلام الشيخ حمد لي وهو يقول :

الشيخ حمد ــــ  أنت سوف تأتي لكن نادر يا ولدي لن يأتي ..

حاولت تناسي الحلم وعدم التفكير فيه اكثر من الازم ولو ان نصف كلام الشيخ قد تحقق ..فترى ماذا سوف يحدث بالنسبة للنصف الباقي ..وهل سياتي اليوم الذي ساذهب فيه إلى من هي كل املي.. المدينة المنورة..

بعد الغذاء ذهبنا أنا وأبي لزيارة الشيخ سالم في المستشفى.. وكان قد بدأ في التحسن وأسترداد العافية..والعجيب أني لاحظت كم التشابة  الكبير بينه وبين صورة الشيخ راجح .. والأعجب أنه سعد جدا بلقائي وقال: كأنه رأى ولده الذي في نفس سني وأيضا يشبهني..

في طريق عودتنا للمنزل أفصحت لوالدي عن عجبي من كم التشابة بين عائلتننا وبين عائلة الشيخ راجح فقال لي نفس كلمة الشيخ حمد في حلم الأمس

الشيخ حمد ــــ   المؤمنون أخوة

فأزداد عجبي ..فأضاف

والد أحمد ـــ أليس من الممكن أن يكون جدودنا الأوائل كانوا ممن جاءوا من الجزيرة العربية أيام الفتح الأسلامي لمصر على يد سيدنا عمر بن العاص رضي  الله عنه وأستقروا بمصر وأحبوها .. فعاشوا فيها وتزوجوا وانشأووا أسر كبيرة.. وعلى هذا من الجائز جدا أن نكون نحن والشيخ سالم أولاد عمومة

فرحت جدا من مجرد فكرة أن نكون اقرباء للشيخ سالم ..خاصا وهو من أهل المدينة المنورة..مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم . وكما قال لي في الحلم جدي

الشيخ حامد ـــ  فأهل المدينة يمتازوا بالطيبة والدعة ونصرة المظلوم وإكرام الضيف .. أليسوا هم من نصروا وأووا  الرسول الكريم صلوات الله عليه وسلامه وأصحابه المهاجرين بعد تركهم مكة وفيها كل متاعهم وأموالهم وخرجوا منها جوعي عرايا.. بعضهم لا يجد ما يسد رمقه أو يستر جسده .. فأستقبلهم أهل المدينة الذين أسماهم الرسول بعد ذلك الأنصار بالترحاب والمودة فآخى الرسول صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار بعضهم بعضا .. فأصبح الأنصار يؤثروا على أنفسهم ولو بهم خصاصة لدرجة كان الأنصاري يريد أن يقتسم بيته وماله مع أخيه المهاجر.
                                                             
 خرج الشيخ سالم بعد أسبوع من المستشفي .. فدعاه ابي للنزول ضيفا ببيتنا فقبل الشيخ بالرغم من صغر وتواضع بيتنا ..وأقام معنا ثلاثة أيام كانت جميلة ملأها الشيخ بروحه الطيبة وقصصه المفيدة عن سيرة سيدنا رسول الله صلى الله علية وسلم وخلقه..وشرح لي كيف على كل مسلم ان يقتضي به في كل أفعاله ..

الشيخ سالم ــــ كان رسول الله أحسن الناس خلقا ولقد شهد له الله عز وجل بذلك بقولة (( وإنك اعلى خلق عظيم)) فقد كان خلقه القرآن.. فما أمره القرآن فعله وما نهاه عنه تركه فصفاته النبيلة وأخلاقه القويمة وخصاله الكريمة لا يختلف عليها أحد ..حتى أن غير المسلمين لم ينكروها وأقروا له صلى الله عليه وسلم بها فقد كان خير البشر ومضرب المثل لكل مكرمة كالتقوى والأيمان والعدل والرحمة والصبر والعفو والتواضع والزهد والكفاح والشجاعة والكرم والصدق والأمانة والجود والحكمة وغيرها وغيرها

أحببت الشيخ سالم جدا جدا كأبي وودت ألا يفارقنا .. ولكنه قرر السفر فحزنت كثيرا لهذا ..ولكنها كانت المفاجأة التي لم تخطر لي على بال ولم أتوقعها ..فقد عرض الشيخ سالم على والدي العمل عنده في المدينة المنورة لما لمسه فيه من شهامة وأخلاص وأمانة.. فوافق أبي على الفور.. وسافر الشيخ سالم على أن نلحقه بعد تجهيز أوراقنا..

ë    ë    ë

الفصل الثامن 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هذة المرة جئت للمدينة المنورة حقيقة وليس كالمرة السابقة.. كما بشرني الشيخ حمد في الرؤيا..

 وللعجب كانت كما رأيتها في منامي تماما..جميلة وبديعة ورائعة .. فأحببتها من كل قلبي منذ أول لحظة .. وتمنيت أن أظل بها فلا أفارقها أبدا .. فهي بحق درة المملكة .. ومما زاد حبي لها تعرفي على عبد الله أبن الشيخ سالم ..الذي اصبح من أعز أصدقائي .. ولقد قدم الشيخ سالم لي في نفس مدرسة عبد الله..فتجاورنا في نفس الفصل وعلى نفس الطاولة حيث كنا في نفس السنة الدراسية .. كان عبد الله يعاملني بغاية النبل والتواضع .. كان دمث الخلق وحفيف الروح .. محب للجميع .. ولم يمنعه عمل والدي كموظف بسيط عند والده أن يعاملني كند له..

كان ذهابنا وعودتنا معا إلى المدرسة .. وكان غالبا أستذكارنا أما في بيته أو في بيتنا الذي خصصه الشيخ سالم لأقامتنا بجانب بيته .. وكان عبد الله  يحب والدي جدا ويحب صوته وهو يرتل القرآن .. وكان يحب سور بعينها كوالده مثل سورة الرحمن ويقول عنها عروس القرآن .. وسورة الواقعة فمن قرأها كل ليلة لم يعرف الفقر في حياته وسورة تبارك وهي المنجية من عذاب القبر .. وكان والدي دائما ما يجيب الشيخ سالم وولده لطلبهما خصوصا يوم الجمعة.. وبعها كنا نخرج للبر أنا وعند الله مع أصدقائنا كي نتمتع بالفضاء وجو الصحراء البديع ونتعود على الأعتماد على أنفسنا ..

مرت بنا الأيام في سعادة وهناء وطمئنينة في رحاب المدينة العظيمة .. وكنا غالبا ما نؤدي الصلوات الخمس في المسجد النبوي الشريف لقرب بيتنا منه.. لكن الغريب أني في أحدى المرات التي ذهبت فيها للصلاة هناك قابلت رجلا يشبه الشيخ حمد تماما .. ناديت عليه فتوقف وألتفت إلي وهز رأسه بالتحية .. وبيده حياني .. ولكنه أستدار و مضى في طريقه مسرعا .. دون أن ينتظر ليحدثني..
والأعجب من هذا أنه في أحدى المرات التي ذهبت فيها للمذاكرة مع عبد الله في بيته أطلعني على صورة لجده مع أحد أصدقائة المصريين وقال وهو يوريني الصورة ..

عبد الله ـــ لم تدم صداقتهما طويلا .. ولكن في هذة الفترة القصيرة أصبحا أكثر صديقين محبة وأخلاصا ..توفيا معا في حادث سيارة على أول طريق المدينةــ مكة وهم ذاهبين لأداء العمرة في شهر رمضان وقبل ولادتي بأيام .. ولقد دفنا معا في البقيع حيث مدفون اغلب الصحابة وأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وزوجاته رضوان الله عليهم جميعا ..                              

فجاء كلامه كأعجب المفاجأت التي صادفتها على الأطلاق وأنا أحدق في الصورة كالمدهوش وأقول..                                                         
أحمد ـــ هل هذا معقول يا عبد الله .. هل هذا معقول يا عبد الله ..

..كانت الصورة لجدي الشيخ حامد وبجانبه وقف الشيخ راجح الذي رأيت صورته في حلمي.. وكان التشابه بينهما كبير للغاية لدرجة أنك تحسبها شخص واحد في أول وهلة..

أخيرا عرفت أنا وأبي ما الذي حدث لجدي الشيخ حامد الذي حضر للسعودية لقضاء فريضة الحج ولم يرجع لمصر وأنقطعت أخباره عنا ..وسبحان الله في حكمته .. يجمعنا نحن وعائلة الشيخ راجح ليصبح أبي والشيخ سالم من أخلص الأصدقاء حتى أن الشيخ سالم بات يأتمن أبي على كل كبيرة وصغيرة عنده في الشركة .. التي نمت بأجتهاد الشيخ وتقواه وأخلاص أبي في العمل لتصبح صرح كبير من شركات المقاولات والأعمار التي كانت تحتاجها المملكة  في هذة الفترة من النمو الأقتصادي والصناعي والعمراني.. وأصبحت الشركة مضرب للأمثال في الأنضباط ودقة المواعيد وسهولة المعاملة بما يرضي رب العالمين .. وأصبح كل العاملين فيها من سعوديين ومصريين وأخوة عرب من بلدان عربية شقيقة يشعروا أن هذة المؤسسة هي بيتهم الكبير والشيخ سالم أبيهم .. وأبي الأخ الأكبر والداعم لهم ..

أجتزت أنا وعبد الله المرحلة الثانوية بسلام وتفوق .. وكان علينا أن نفكر في مستقبلنا القادم.. كان أمل كل منا أن يدرس الهندسة.. وبافعل تحدثت مع أبي وهو مع أبيه على هذا..وبعد مشاورات أستقر رأي والدانا على سفرنا إلى القاهرة للألتحاق بالجامعة لدراسة الهندسة.

كانت فرحتنا شديدة أنا وعبد الله لهذا القرار المصيري .. وتعاهدنا على الأجتهاد والمصابرة حتى نصل إلى هدفنا .. كان كل أملنا أن نصبح من الوائل وأن يشار إلينا بالبنان لكفاءتنا..

وكانت المفاجأة السارة هي لقائنا بزميلى خالد الذي التحق مثلنا بكلية الهندسة ولكن هو ألتحق بقسم الهندسة النووية وأنا وعبد الله ألتحقنا بقسم إنشاءات وعمارة..

عينت بعد حصولي على البكالوريس كمعيد بالكلية في حين فضل عبد الله العودة للسعودية لمساعدة والدة في إدارة الموسسة.. وها أنا بعد حصولي على الدكتوراة  مدعو من قبل عبد الله للمشاركة في مشروع عملاق تقوم به الحكومة السعودية ..ألا وهو مشروع توسعة المسجد النبوي الشريف .. فتركت عملي كأستاذ بالجامعة لأجل هذا .. فكل شيء يصبح ضئيلا غير ذي معنى ولا قيمة بحانب الأقامة بالمدينة ومجاورة المسجد النبوي الشرف ..                                                         

وها أنا عائد للمدينة الحبيبة .. المدينة المنورة .. درة المملكة وزينتها ..الأمل والحلم الذي راودني منذ الصغر ومنذ الطفولة..

فوجئت بأزدياد عدد السكان بالمدينة زيادة كبيرة ..فقد زاد عدد السكان في الثلاثين سنة الأخيرة  فأصبحوا حوالي 856 ألف نسمة..بعضهم من أهل المدينة المقيمين فيها منذ قرون طويلة..وبعضهم من الوافدين إليها من أنحاء المملكة وبعضهم من القادمين مثلنا من البلاد العربية والأسلامية للعمل..

ويقدرعدد سكانها اليوم بحوالي مليون وثلاثة مائة ألف نسمة.. موزعين على أحياء المدينة المختلفة..ولكن تغيرت الكثافة السكانية فيها..فتضاعف عددهم في الأحياء المجاورة للمسجد النبوي.. وأزدادت الأماكن السكنية والتجارية التي تخدم زوار المدينة..الذين يفدون عليها بأعداد كبيرة خاصة في شهر رمضان وموسم الحج..والذين قد يصل عددهم فوق المليون نسمة

ولقد أولت الحكومة أهتماما كبيرا بتوسعة المسجد النبوي الشريف وتجديد وإعمارة..وأرصدت ميليارات لتركيب مضلات تغطي جميع ساحات المسجد لحماية المصلين والزائرين من حرارة الشمس ومخاطرها..ومن الأمطار الغزيرة والحوادث المترتبة عليها..ولقد جهزت هذة المظلات بأنظمة إلكترونية لتخلص من الأمطار وللأنارة وللفتح والغلاق آليا.. ومواقف للسيارات ولتحميل وإنزال الركاب.. وأضيفت مساحات واسعة مساحات واسعة إلى مساحة لساحة الحرم النبوي لتكفي عدد المصلين المتزايد بأستمرار لما يلاقوه من أمن واستقرار عم بعد عام ..                     

فالمدينة تهفوا إليها أفئدة المسلمين من شتي بقاع الأرض..مشارقها ومغاربها..وزيادة عدد المآذن.. وتلطيف الجو بما يصل من هواء بارد عبر فتحات معدة خصيصا لهذا ..ونفق الخدمات الذي يتيح إتمام خدمات كثيرة لزوار المسجد والمدينة..

الشيخ سالم ـــ لم يمر ملك من ملوك المملكة يا  أحمد إلا وله يد في توسعه المسجد وعمارته..ولكن بالطبع مع المحافظة على البناء القديم للمسجد الذي روعي أن يحتفظ بأصالته ومظهره الجمالي.. فكانت من تلك العمال تجديد جميع أعمدة الروضة الشريفة وتغليقها بالرخام الأبيض الفاخر.. تدعيم جميع أعمدة البناء القديم وأستكمال قواعدها النحاسية.. تكيف المسجد تكيفا مركزيا.. تغطية الوجهات بالجرانيت..إعادة الدهانات والنقوش التي في القباب وعلى الجدران للمحافظة على جمالها وأصالتها..ترميم المنارة الرئسية وبعض المنارات الأخرى..فتح أبواب جديدة لتسهيل دخول وخروج المصليين منها وإليها..تجديد طلاء القبة الخضراء كلما أستدعى الأمر لهذا تركيب معدات إضاءة جديدة

أحمد ـــ نعم .. العمل في أعمار المسجد النبوي الشريف  لا يتوقف أبدا

الشيخ سالم ــ حقا فالأستمرار في ترميمة وتجديدة وصيانتة يحدث يوميا..فهو الشغل الشاغل للجميع .. والعمل في هذا الإعمار شرف لا يضاهيه شرف غير توسعة وأعمار المسجد الحرام .. والأعمار بهما متزامنان ومتلازمان..  وكان دائما المشاركين في تلك الأعمال الجليلة مهندسين مصريين مثلك يا أحمد.. ولهذا فانا أنتظر منك الكثير الذي تقدمه لأعمار المسجد وصيانتنه مع اخيك عبد الله.. فانا ثقتي فيكما كبيرة..

وبدأنا خطة العمل أنا وعبد الله من خلال مؤسسته المعمارية الكبيرة .. وكانت كلمات الشيخ سالم بمثابة السهم الذي أطلق لتبدأ المسيرة لعمل جاد ومثابرة وعزيمة ..فأي شرف هذا الذي أولانيه الله ..اللهم أعنب على أتمام عملي هذا بما تحب وترضى ..وأجعلة زخرا لي في الأولى والأخرة..


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق