الخميس، 15 مايو 2014

بعض القيم الأساسية فى دراسات عالِم الاجتماع الكبير الأستاذ الدكتور سيد عويس ( 1913 – 1989 ) بقلم: يعقوب الشاروني



                جمعية المرأة العربية
حفل تكريم إنجاز الأستاذ الدكتور سيد عويس
     بمناسبة الاحتفال بـ 100 على ميلاده




بعض القيم الأساسية
فى دراسات
عالِم الاجتماع الكبير
 الأستاذ الدكتور سيد عويس
( 1913 – 1989 )
___________

دراسة من إعداد: يعقوب الشارونى 
 المجلس الأعلى للثقافة
الأحد 11 مايو 2014

الفرشاة و " جردل البوية " :
          فى يوم الثلاثاء 12 / 10 / 1993 ، نـَـشـَـرْتُ فى صحيفة الأهرام فى باب " ألف حكاية وحكاية " الذى كُنت أنشره يوميًّا فى جريدة الأهرام ، تحت عنوان " الفرشاة وجردل البوية " :
فى كتابِ " لا للعنف " ، الذى كتبَهُ العالمُ الكبيرُ الدكتورُ " سيد عويس " ، يذكرُ أنه قضى فترةَ الإعدادِ للدكتوراة فى جامعةِ " بوستن " بالولاياتِ المتحدةِ ، من                  عامِ 1953حتى 1956 ، وكانَ يتدربُ فى مركزٍ من مراكزِ خدمةِ المجتمعِ .
يقولُ إنه فى فترةِ الصيفِ ،كان الطلبةُ والطالباتُ فى جامعاتِ مدينةِ بوستن ، يتـَّـخذونَ ذلك المركزَ مقرًّا لهم ليقوموا بعملياتِ تنظيفِ الشققِ التى يسكنـُـها الفقراءُ ، فى الحىِّ الذى أنشئَ المركزُ لخدمتِهِ .
وكانَ أصحابُ هذه الشققِ من البيضِ الفقراءِ ، أو من الزنوجِ المطحونين . وكانَ طلبةُ وطالبات الجامعاتِ هؤلاء ، من العائلاتِ التى تستطيعُ دفعَ المصاريفِ المرتفعةِ للجامعةِ ، بالإضافةِ إلى المصاريفِ الأخرى التى تتطلَّـبُـها المعيشةُ السهلةُ الرغدةُ لبناتِها وأبنائِها .
ويقولُ الدكتورُ سيد عويس : كانَ هؤلاء الطلبةُ والطالباتُ يحاولون أن ينزلوا إلى الطبقاتِ الدنيا ، ليحتكُّوا ثقافِيًّا بأعضائِها ويفيدوهم . وفى سبيلِ تحقيقِ ذلك ، يلتزمونَ بأداءِ خدمةِ تنظيفِ الشققِ عن طريقِ تبييضِها أو نقشِها .
ويضيف : وكنـْـتُ أرى أعضاءَ هذه الجماعةِ وقد حملَ بعضـُـهم على أكتافِهم " السلم الخشبى " وفى أيديهم " الفرشاة " أو " جردل البوية " .
وأراهم وهم يسيرون فى الشارعِ بإصرارٍ ودون خجلٍ أو خشيةٍ من أحدٍ . وكنتُ أرى أيضـًـا الزَّهْوَ أحيانـًـا ، والتواضعَ فى أحيانٍ أخرى .
* هذه الفقرة التـى اهتــم المفكــر الاجتماعــى الكبيــر أن ينقــل إلينــا فيهــا تلك التجربة ، يكشف أهم خصائص المنهج الذى حرص عليه فى حياته العلميــة كلهــا ، وهى عدم الاكتفاء بالتنظير ، بل بالغوص داخل المجموعات البشريـة التى يسعــى إلى الكشف عن حقائق معتقداتها وحياتها ، وأساليب تفكيرها ، وكيفية نظرتها لمختلف نواحى الحياة اليومية والفكرية والروحية .
** وفى هذه الدراسة ، نحاول معايشة بعض القيم والاهتمامات الأساسية
 التى شغلت عالمنا الكبير على مدى حياته العلمية والعملية الخصبة المثمرة .
** أولاً : التفكير الخرافى :
          فى ضوء المنهج الذى أشرنا إليه ، نقرأ فى كتاب : " من وحى المجتمع المصرى المعاصر " ، كيف يرفض مفكرنا الكبير التفكير الخرافى الشائع بين عدد هائل من أفراد الشعب المصرى ، يقول :
استمر الشعب المصرى يحيا ، على الرغم من المآسى التى عاشها وتعايش معها ، فى ضوء ما غـُـرس فى تربته المقدسة من عناصر ثقافية إيجابية ، ومبادئ ومُثل عُليا وقيم ذات الأهداف الحميدة حتى وقتنا الراهن .
وأعترف بأنه مع ذلك بقى من الرواسب الثقافية الاجتماعية البالية الكثير ، ومن هذه الرواسب ، بل وعلى رأسها ، الخرافات التى نجدها فى المناخ الثقافى الاجتماعى المصرى ولا تزال .
هذا فى الوقت الذى نرى فيه دول اليابان والعالم الغربى وبخاصة العملاقان الاتحاد السوفيتى والولايات المتحدة ، قد برز العِلْم العصرى وتطبيقاته أى التكنولوجيا الحديثة فيها ، فنجد ازدهار علوم الهندسة الوراثية والكيمياء والطب والطبيعة والتسلط على الظاهرة الفلكية .
ويضيف د. سيد عويس : فى إحدى الدراسات العلمية التى نشرتها ، أذكر أن التفكير الخرافى يعتبر صيغة أو وصفة تفسر موقفًا معينـًـا أو ظاهرة معينة ، أو تحقق إشباع حاجة   معينة ، أو تحذر من شر معين .
والتفكير الخرافى فى ضوء التفسير العلمى ، هو اعتقاد أو فكرة لا تتفق مع الواقع الموضوعى بل تتعارض معه ، وأن يكون لهذا الاعتقاد أو هذه الفكرة استمرار .
والخرافة تعنى عادة بتفسير ظاهرة ما أو مشكلة يتكرر ظهورها فى حياة الناس      ( خسوف القمر مثلاً ) ، إذ عندما يخسف القمر يصيح الناس أو بعضهم ( وكأنهم يغنون )                " يا بنات الحور .. اتركوا القمر للنور " !
ولعل عوامل وجود التفكير الخرافى ، تكون فى صعوبة الحياة والأخطار الغامضة . ومن أهم هذه العوامل القلق المَرَضى واضطراب الحياة ، الذى تواكبه المشاكل الاجتماعية ، وبخاصة مشكلة ظاهرة     " اللامعيارية " ، فضلاً عن الشعور بالضعف والعجز .
والملاحظ أن التفكير الخرافى يستند إلى أسباب غير طبيعية ، لتفسير أو حل مشكلات طبيعية ، تـُـعزى إلى علل غير صحيحة أو غيبية لا يستطيع المفكر خرافيًّا أن يحددها أو أن يتحكم فيها ، وذلك لبُعد التفكير الخرافى عن الواقع الموضوعى ، ولشيوع الخرافات بين عدد كبير من أعضاء المجتمع ، والافتقار إلى العلّية العلمية ، والاستناد فى الكثير من الأحيان إلى المفاهيم الغيبية ( الحظ والأرواح والسحر مثلاً ) .
* هتاف الصامتين :
          وفى كتابه " هتاف الصامتين : ظاهرة الكتابة على هياكل المركبات فى المجتمع المصرى               المعاصر " ، يطبق الأستاذ الدكتور سيد عويس منهجه فى البحث ، باختيار موضوع                 لم يسبق لباحث مصرى أن تنبه إليه ، فنقرأ له عن هذه الدراسة :
          هذه محاولة عملية جادة للكشف عن حقيقة روح مصرنا الخالدة ، فى عمقها وفى أصالتها . وقد أصبحت معرفة هذه الروح الخالدة الصامدة معرفة موضوعية فى ضوء ظروف مجتمعنا المصرى المعاصر ضرورة . هذه المعرفة تعتبر فرصة رائعة لتخليصها من الشوائب ومواجهة التحديات المعاصرة التى يواجهها هذا المجتمع لكى يصرعها .
          والدراسة الحالية ، اكْتَشَفت إحدى فئات الصامتين فى المجتمع المصرى المعاصر ، الذين أرادوا فى ضوء ظروفهم الاجتماعية والثقافية والاقتصادية أن يُسْمِعُوا أصواتهم دون أن يراهم أحد ، فخلقوا - دونما إرادة - جهازًا إعلاميًّا شعبيًّا خاصًّا يتحرك على امتداد مُدن هذا المجتمع وقُراه ، تجلجل أصواتهم فيه دون أن يراهم أحد ، ويُعَبِّرون عن طريقه عن أَنـَّـاتِهم وآمالهم ، أفراحهم وأحزانهم ، استسلامهم ودعاباتهم ، وعن بعض القيم التى يقدسونها وبعض أنماط تفكيرهم .
ومن حق هذه الفئة وغيرها من فئات الصامتين فى مجتمعنا ، أن يَظْهَروا ،               وأن يمارسوا ما يريدون أن يقولوه علنـًـا فى ظل الديمقراطية ، بأنماطها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والقانونية والعلمية .
فالعبرة كل العبرة ، تكون لا فى الحديث عن الديمقراطية ، أو عن نمط من أنماطها ،                           بقدر ما تكون فى ممارسة الديمقراطية بأنماطها كلها . 
* ومن أهم نتائج هذه الدراسة ، حول عبارات الأشكال الشعبية وكلماتها ، يذكر           د. عويس :
إن عبارات الأشكال الشعبية وكلماتها تتضمن معانى عديدة ، منها ما هو سلبى ، أى ما يعكس العديد من المشاعر السلبية ، كالشكوى من الهجر والقسوة والفراق ، والسهاد والوحدة والظلم والضياع والحزن والهموم ، وتتضمن هذه المعانى - أيضًا - الصبر السلبى والانتظار واللا مبالاة والحيرة والحسد والاستسلام والتحذير من الغضب .
ومع ذلك فإن بعض المعانى الأخرى تشرق بالإيجابية وبتقبل الحياة على علاتها وعدم رفضها ، مثل : معانى الأمل والفرح والتفاؤل والدعابة والغـَـزَل والتسامح والسلامة ، والدعوة إلى الشطارة وإلى احترام العامل والدعوة إلى سلوك الطريق المستقيم وإلى التأدُّب وإلى عدم النفاق وإلى فعل الخير وإلى الرأفة بالحيوان وإلى عدم الغش وإلى عدم الندم  على ما فات .
وتـَـقَبـُّـل الحياة على علاتها عند كاتبى العبارات والكلمات يبدو واضحًا فيما كتبه أحدهم على مركبته " كل الناس حلوين " . صحيح أن هذه العبارة جزء من أغنية معروفة ، ولكن اختيارها وكتابتها حيث وُضِعت على هيكل المركبة التى تجوب الآفاق شرقًا وغربًا وشمالاً وجنوبًا ، إنما يعلنان بوضوح عن روح عالية مشرقة تتقبل جميع الناس على الرغم من كل شىء ، ودونما تحيز أو تفرقة لأن كلهم " حلوين " .
* ويضيف د . عويس أن كاتبى عبارات الأشكال الشعبية وكلماتها ، أى أصحاب المركبات أو سائقيها :
- إذا غنوا " اشتكوا " ، وإذا تحدثوا حديثـًـا عاديًّا اشتكوا أيضـًـا .
- وهم يتحدثون عن " الصبر " فى أحاديثهم العادية ، ويترنمون به فى أغانيهم ، ويذكرونه فى أمثالهم الشعبية ، وينصحون به .
- وتراهم إذا تحدثوا عن " الحسد " ، وإذا رغبوا فى " المداعبة " ، وهم                      إذ يتغزلون ، وهم إذ يسلمون أمورهم إلى الله ، تراهم يترنمون بذلك فى أغانيهم ، ويتحدثون عنه فى أحاديثهم العادية ، ويذكرونه فى أمثالهم الشعبية ، وفى نصائحهم .
- وإذا دعوا إلى " عدم الإسراع " ، وإذا كان مطلبهم " السلامة " ، أو وهم يُعجبون بأنفسهم أو يتفاخرون بها ، وإذا لهجت ألسنتهم بالتفاؤل أو بالدعاء أو أكدوا                                 " حداقتهم " ، فإنهم يفعلون ذلك فى أحاديثهم العادية .
- وتتضمن أمثالهم الشعبية الاعتزاز بالأصل ، واللا مبالاة ، والحض على سلوك الطريق المستقيم .
* كما نلاحظ أن كاتبى العبارات الدينية وكلماتها ، أى أصحاب المركبات                 أو سائقيها موضوع الدراسة :

- إذا طلبوا من الله - جل شأنه - طلبوا ذلك وهم يدعون الله ويبتهلون إليه ، وهم إذ يستسلمون لإرادة الله ، وهم إذ يحمدون الله ويشكرونه ويتوكلون عليــه ويعظمونــه ، أكدوا ذلك فى دعواتهم وابتهالاتهم ، وفى قراءة القرآن الكريم أو ذكر الأحاديث النبوية ، أو تلاوة بعض الآيات من الكتاب المقدس .
- وهم إذ يتقربون إلى الله - جل وعلا - ويضعون رجاءهم فيه ، يتقربون - أيضـًـا - إلى النبى - صلى الله عليه وسلم ، كما يتقربون إلى السيدة العذراء ، وإلى أهل البيت والأولياء ، ويتوسلون ويلتمسون الخلاص منهم والبركة والحماية ، ونجدهم كذلك يلتمسون بركة دعاء الوالدين .
- وإذا كانت عبارات الأشكال الدينية وكلماتها تتلألأ بمعانى التفاؤل والسلام والأمن ، والتحذير من الفتنة والاعتصام ، والدعوة إلى التحلى بالخلق العظيم           أسوة بالنبى - صلى الله عليه وسلم - والتعاون بين المؤمنين ، ومحاسبة الضمير ، فضلاً عن الدعوة إلى محبة الناس بعضهم بعضـًـا ، فإن هذه العبارات تتضمن معانى الخوف من الله جل شأنه .
* كما أن عبارات أخرى وكلماتها تتضمن معانى جديدة ، منها معان سلبية وأخرى إيجابية ، وقد تتضمن بعض هذه المعانى المعاملة المثلى التى يحددها - عادة - التراث الثقافى فى مجتمعنا المصرى المعاصر ، والتى ترسم على المستوى النظرى الطرق التى يجب مراعاتها واتباعها ، وذلك بعدم ظلم الناس وبالحلم معهم حتى إذا سفهوا ، وبأن الغنى كل الغنى فى العقل وأن الفقر كل الفقر فى الحمق ، وبالدعوة إلى حُسن الخلق وحُسن الكلام ، والاعتراف بالحق والتمسك بالأمانة وإلى الحق والعدل والإيمان والعلم ، وإلى النظافة وإلى العمل للآخرة ، وإلى العمل المنتج وإلى خدمة الآخرين وشكرهم ، وإلى عدم عيب الآخرين وإلى عدم الطمع .
* ويذكر عالمنا الجليل ، أنه فى ضوء أهم النتائج ، يمكن أن نلاحظ بعض الدلالات :

- فهم يكتبون بالضرورة ما يكتبون بمحض إرادتهم ، ونتيجة اختيار جاء نتيجة لما يشعرون ويحسون ويأملون ويعتقدون ، لأنهم وجدوه صالحًا لكى يعبروا به عما فى خلجاتهم ومشاعرهم .
إنهم - فى حقيقة الأمر - يحاولون أن يُسْمِعُوا أصواتهم دون أن يراهم أحد ، يحاولون أن يستخدموا إحدى وسائل التعبير عند الصامتين من أعضاء مجتمعنا المصرى المعاصر .
* والملاحظ أن الصامتين فى المجتمع - وإن بدوا كذلك - لا يبقون صامتين على الدوام .                        إن صـوتهـم بأسلـوب أو بآخر يرتفـع من حيـن إلى حيـن إلى الآفـاق ، يجلجل ويرتفــع عنــد الصــلاة ، وعند الدعاء ، وفى حلقات الذكر ، وفى ملعب الكرة ، وفى الملاهى وفى المسارح ، وفى أثناء الاستماع للغناء ، وفى المباراة وفى النكت ذات المضمون السياسى أو المضمون الاجتماعى ، وأمام الموت ، وحتى عن طريق الكتابة أو الرسم فى داخل دورات المياه !
- وهذا الجهاز الإعلامى الشعبى الذى اصطنعوه ، دونما وعى - أصبح واحدًا من أجهزة التنشئة الاجتماعية التقليدية التى توجد عادة فى المجتمع مثل : الأسرة ، والمدرسة ، والمنظمة  الدينية ، والنادى الاجتماعى الثقافى والمنظمة السياسية ، وأجهزة الإعلام . وهو كجهاز إعلامى يدعو - فى ضوء طبيعته - إلى تثبيت العديد من العناصر الثقافية غير المادية .
** ثانيًا : حاجتنا إلى المنهج العلمى :
يقول العالم الكبير حول حاجتنا إلى المنهج العلمى " فى حياتنا :
كان " مفهوم العلم " منذ عهد غير بعيد جزءًا من الشعار الذى رفعته الدولة فى جمهورية مصر العربية ، ويبدو أنها لا تزال ترفعه . والاهتمام بهذا المفهوم بمعنى أنه                 " الخبرات الإنسانية المنتظمة " ، مرجعه إلى أننا نوجد فى عصر أصبح فيه العلم وسيلة مباشرة من وسائل الإنتاج ، أى أنه أصبح يتغلغل فى كل أمور الحياة : حياة الإنسان فى عصرنا الراهن .
ومن حق هذا العلم أن ينفرد بالحُكم فى شئون الفكر ، ومجتمعنا المصرى كمجتمع               " متميز " يحتاج إلى العلم العصرى حاجته إلى الحياة .
فالمعروف إنه ليس كل متعلم عالمًا ، وإن كان العالم يكون بالضرورة متعلمًا . فالعلم خبرات إنسانية ولكنها خبرات إنسانية منتظمة ، يحصل عليها العالم عن طريق منهج معين هو المنهج العلمى. ومعلومات المتعلم هى خبرات إنسانية أيضًا .
والمنهج العلمى ، على عكس " الحفظ والتلقين " ، يواجه ظواهر الطبيعة أو ظواهر المجتمع                     " مواجهة موضوعية " ، وهو إذ يفعل ذلك يكون دائمًا مهتديًا بالشعار القائل  " لا شىء يأتى من لا شىء " ، وهو يحاول دائمًا أن يكون منهجًا لفهم الحياة بقصد تغييرها .
* ومنذ إنشاء الجامعة المصرية وحتى عام 1936 ، لم يتغير اتجاه المفكرين المصريين من الاهتمام بالدراسات النظرية لعلوم النفس والتربية والاجتماع والانثروبولوجيا ، إلى الدراسات الواقعية التى تهدف إلى دراسة المجتمع المصرى إلا قليلاً ، فقد شذ عدد قليل منهم وأجروا بحوثــًـا واقعية حول موضوعات تتعلق بهذه  العلوم .
وفى عام 1955 ولدت مهنة البحث العلمى بمعناه الحديث فى ميادين العلوم الاجتماعية ومجالاتها فى مصر ، حين أنشئ " المعهد القومى للبحوث الجنائية " . وقد تطور هذا المعهد وأصبح " المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية " منذ عام 1959 حتى الآن . 
ويلاحظ أننا على مشارف القرن الواحد والعشرين ، وأن العلم العصرى يخطو بخطى واسعة ، وأن تطبيقاته ( التكنولوجيا ) تتقدم يومًا بعد يوم .
* والمعلوم أنه لكــى يَتَكـَّـوْن المواطــن الصالح فى ضــوء الأهــداف الاستراتيجيــة المقترحة ، يجب علينا أن نستفيد من أجهزة التنشئة الاجتماعية التى توجد فى كل المجتمعات .
وأقصد بهذه الأجهزة الأسرة والجيرة والمدرسة والمنظمة الدينيــة ومنظمــة شغل أوقات الفراغ والمنظمة السياسية ( إن وجدت ) ، فضلاً عن أجهزة الإعلام والثقافة .
وإننى أرى بل أعتقد بأنه إذا أدت هذه الأجهزة دورها كما يجب فى ظل أستراتيجية محددة الأهداف والمعالم بانسجام وتوافق ، فإننا نستطيع أن نصل إلى ما نأمل فيه .
          إن أعضاء المجتمع المصرى المعاصر فى مسيس الحاجة إلى وجود المواطنين الصالحين ، الذين لا هم لهم إلا أن يعرفوا حقوقهم ، وإلا أن يؤدوا واجباتهم كما يتطلب منهم هذا المجتمع فى ضوء ظروفه الراهنة ، وهى ظروف جعلته فى مفترق الطرق .  
** " التفكير العلمى " :
          ونضيف إلى هذا التأكيد الذى يشدد عليه العالم الجليل الأستاذ الدكتور               سيد عويس حول أهمية أن تقوم حياتنا على المنهج العلمى ، نضيف كلمات حول تعريف         " التفكير العلمى " .
فالمنهج العلمى هو الطريقة التى تـُـنـْـتِج " معرفة يعتد بها " ، بمعنى آخر أنها تؤدى إلى التوصل إلى معرفة تتمتع باحتمال كبير أن تكون معرفة صحيحة ، لأنه قد تم التأكد من صدقها باستخدام منهج يعتمد عليه .
المنهج العلمى إذن هو طريقة للتأكد ( أو التحقق ) من صدق المعرفة العلمية ، وفى ذات الوقت هو أيضـًـا طريقة للتوصل إلى مثل هذه المعرفة ، ذلك أن أكثر التعريفات شيوعًا للعلم تصفه بأنه " المعرفة التى يجرى التوصل إليها باستخدام المنهج العلمى " .
فممارسة العالِم الحقيقى للتفكير العلمى ، هى ممارسة للتفكير للتوصل إلى كيفية أو سبب حدوث شىء ما ، أو اكتشاف العلاقة بين شىء وشىء آخر . إنه يقوم برحلة ذهنية ( وقد تكون أيضـًـا عملية ) ، تبدأ بوضع وتطوير أسئلة تتعلق بموضوع البحث ، وتنتهى بالتوصل إلى فهم أو مفهوم أو استنتاج ما .
من هذا المنظور نجد أنه حتى الشخص غير المشتغل بالبحث العلمى ، يمكن أن يمارس التفكير بالأسلوب العلمى وهو يعمل فى مهن ومهام ومجالات مختلفة عديدة ، مثل : الاستثمار .. الدراسات الإنسانية .. التدريب الرياضى . بل إن الشخص العادى يمارس تلقائيًّا مثل هذا التفكير فى شتى أمور حياته اليومية .
* ويمكن الإشارة إلى خطوات المنهج العلمى بإيجاز شديد على النحو التالى :
الخطوة الأولى : نقطــة البــدء ، وتكــون فى شكل ســؤال له دلالة مهمــة تجعلــه
جديرًا بالبحث عن إجابة له ، أو فى شكل مشكلة تحتاج إلى حل .. المطلوب إذن - كنقطة بدء - تحديد السؤال أو المشكلة .
الخطوة الثانية : تجميع معلومات أو ملاحظات ذات صلة بالموضوع قيد التعامل والبحث ، أى حول السؤال أو المشكلة .
الخطوة الثالثة : اقتراح ( أو وضع أو التوصل إلى ) إجابة للسؤال أو حل للمشكلة ، وهذا يُسمى " فرض " ، والجمع " فروض " .
الخطوة الرابعة : اختبار الفرض الذى تم وضعه ( أو الفروض ) ، وذلك من خلال إجراء تجربة ، أو تجارب ، للتأكد من صحة الفرض أو أحد الفروض .
الخطوة الخامسة : إذا أثبت الاختبار فشــل الفــرض السابق ( أو الفروض      السابقة ) ، تصبح هناك حاجة لتعديله أو تغييره بفرض جديد ، حيث ينبغى التوصل إلى فرض         " مقبول " ، أى فرض يَـعْـبُر ( أو يمر من ) الاختبار بنجاح .
الخطوة السادسة : إذا تكرر نجاح الفرض المقبول عند تعرضه لاختبارات أخرى بواسطة باحثين آخرين ، فإنه قد يكون تَحَوَّل إلى معرفة يُعتمد عليها ، أى أنه يصبح عندئذ " حقيقة علمية ".
الخطوة السابعة : من خلال الحقائق العلمية ( أو القوانين الجزئية ) ، يمكن الاتجاه إلى بناء " نظرية " - وربما تؤدى الحقائق العلمية ( أو القوانين الجزئية الجديدة ) إلى زعزعة نظرية موجودة .
* بعد هذه الإشارة السريعة الموجزة للخطوات ، يجب التخلص أولاً من عوامل ومؤثرات عديدة من شأنها التأثير سلبًا على تطبيقنا للمنهج العلمى ، حيث فى ظل أى من هذه العوامل والمؤثرات ينحرف التطبيق ، مما يقود إلى نتائج مشكوك فى صحتها ، وتكون زائفة                 لا يمكن أن يعتد بها .
من أمثلة العوامل والمؤثرات المضادة لصحة المنهج العلمى والتى تعرقل تنفيذ خطواته                 يمكن الإشارة إلى : ( 1 ) الانفعالات والعواطف والأحاسيس والرغبات والمعتقدات . ( 2 ) الفكر الشائع . ( 3 ) النفوذ والسلطة والشهرة والإعلام ( غير الموضوعى والمضلل ) . ( 4 ) الخرافة .                                   ( 5 ) التعصب . ( يراجع كتاب " التفكير العلمى " ، للدكتور محمد رؤوف حامد ) .
** ثالثًا : ظاهرة الأمية وكيف نكافحها :
          اهتم العالم الجليل الأستاذ الدكتور سيد عويس بظاهرة من أسوأ الظواهر التى أصابت المجتمع المصرى ، هى ظاهرة الأمية – يقول العالم الكبير فى كتابه " من وحى المجتمع المصرى المعاصر " :
مجتمعنا المصرى المعاصر ، فى ضوء ظروفه الاقتصادية والسياسية والثقافية الاجتماعية ، يئن من بعض الأمراض والمشاكل التى تقف فى سبيل تنميته ، ومنها بالضرورة مشاكل الأمية .
إن هذه الأمراض والمشاكل تجعل مجتمعنا متخلفًا ، ومن ثم فإنه من العسير أن يقوم هذا المجتمع بفئاته وقادته بالتنمية المرجوة .
وأقصد بفئات المجتمع هنا أهمها ، أى فئة الشباب الذين فى الفئة العُمرية من سن 15 إلى أقل من سن 30 عامًا . فأعضاء الشباب وبخاصة من هم فى هذه الفئة                 هم حملة مشاغل التنمية المرجوة لمجتمعنا المصرى .
          * والملاحظ أيضـًـا أننا نجد أن عطاء أجهزة الإعلام والثقافة لفئة الشباب المشار إليهم ، فى ضوء انخفاض نسبة التعليم فيه ، عامل من عوامل عدم كفاءة هؤلاء الشباب .
- وتُعَرَّف " منظمة اليونسكو " الأمية الوظيفية بأنها : " عدم الإلمام بالقراءة والكتابة على النحو الذى يُمَكِّن الفرد من ممارسة الأنشطة التى تتطلب معرفة القراءة والكتابة ، بما فى ذلك توسيع معارفه ذاتيًّا ( أى تعليم نفسه ) إذا ما اقتضى الأمر ذلك " .
ويذكر د. سيد عويس : وفى ضوء نتائج أحد البحوث الذى قُمت بإجرائه على بعض المشاهدين من الشباب لأحد " الأفلام " المصرية المعروضة على شاشة جهاز التليفزيون ، وكانوا فريقين : فريق كل أعضائه من الأميين ( الذين لا يعرفون القراءة والكتابة الأبجدية ) ، وأعضاء الفريق الثانى من طلبة المدارس الثانوية والفنية .
وقد لاحظت تضارب أقوال الفريقين عن وقائع الفيلم المعروض . فالأميون الشبان كانوا يرون ما يتمنون أن يروه ، على عكس الشبان الآخرين من الطلبة ، فقد استوعب الآخرون مغزى الفيلم وأهدافه مع اختلاف فى بعض التفاصيل .
* أعترف بأن " المعلم " له نفس الأهمية ، إن لم تكن هذه الأهمية أكثر خطورة وخطرًا .
* وبالإضافة إلى هذين البُعدين أرى أن " البيئة الثقافية " التى تحيط بالمتلقى وإمكاناتها المعنوية والمادية هى كذلك بُعد هام .
- وإذ أتحدث عن القضاء على الأمية فى المجتمع المصرى المعاصر ، فإننى أؤكد على أن المقصود هو " القضاء على الأمية الوظيفية " .
* وإننى أدعو ملحًّا إلى أن تكون " المدرسة " ( من دار الحضانة إلى الجامعة والمعاهد العُليا )                     " مؤسسة اجتماعية تربوية " فعلاً وحقًّا . يجب أن تـُـفْهَم التربية على أنها " عملية تغيير " ، بواسطتها ينمو عضو المجتمع ويزدهر وتتفتح ملكاته وقدراته .
ويواصل الأستاذ الدكتور سيد عويس حديثه المهم قائلاً :


" عملية التغيير هذه تهدف أولاً وقبل كل شىء إلى إعداد عضو المجتمع المصرى المعاصر لكى يستطيع أن يؤدى أدواره الاجتماعية التى يتوقعها منه هذا المجتمع ، أى يكون الشخص ذا اتجاهات فكرية نحو من يحيط به من الناس ، وأن تكون هذه الاتجاهات مما يفيد هذا المجتمع ، وهى قيم أهدافها بناءة ، لأنها تدعو إلى الخير " .
" وإننى أعنى بمفهوم الخير هنا كل ما يعين على العمل الصالح من أجل الآخرين ، أى كل ما يعين على " التغيير " إلى الأفضل وإلى الأقوى وإلى الأعظم " .
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق