الثلاثاء، 7 يناير 2014

"يوم للموسيقى" قصة للأطفال بقلم: الحسن بنمونة



يوم للموسيقى.
من 8 : 10 سنوات
الحسن بنمونة

      تفيأ الراعي ظل شجرة ، وراح يبث ألحانا شجية من نايه المصنوع من القصب ، وعيناه لا تفارقان قطيع الخراف التي يرعاها.

       كانت الأنغام تسري في رحاب الدنيا ، رقراقة كماء يجري في جدول .

       سرت في نسغ الأشجار وفي دماء الحشرات وفي مسام الأرض ، تلقفتها مسامع الخراف فصارت تلتهم العشب التهاما ، أما الحشرات فقد وقفت تنظر إلى بعضها بعضا محتارة ، هل تدنو من مصدر هذه الموسيقى الملائكية أو تغرب عنها ، فربما تكون فخا من فخاخ صيادين مغرمين بجمع أصناف الحشرات للتباهي بها أمام الأصدقاء .  

  قالت أفعى لزوجها الثعبان :

  _ لم نعهد هذا من قبل . كان يأتي المكان غرباء فينصبون شباكا أو فخاخا فنقع فيها مرغمين لأن الجوع دفعنا دفعا إلى الهلاك . أما أن نسمع موسيقى تخلب اللب وتشد الانتباه  فهذا يدعونا إلى وقفة تأمل .

       رد الثعبان قائلا :
_ هذا صحيح . إنني أحس بها تسري في دمائي ، وتخفف أحزاني وغضبي ، ولكنني أخشى أن تخفف مفعول سمي ، لأنني أعيش به ولا أستطيع الفكاك منه.

_ وأنا كذلك ، أحس بها ناعمة تجبرني على التخلي عن حقدي وكراهيتي لكل شيء يلمس جلدتي مخافة أن يهلكني . الموسيقى تدب الآن في كياني . فلندن من مصدرها ، ولنكن حذرين .

   وصارا يقتربان من مصدر الأنغام شيئا فشيئا ، لا يصدران أي حركة تثير الانتباه.
     قال الذئب في نفسه وقد اعتلى ربوة متفرسا في الخراف الآمنة : ( يبدو سعيدا وهو يمسك بنايه ، لا يهتم لغير الموسيقى الشجية . هو يعرف أنها لا تنبت العشب ولكنها تنثر الأمان عليه فتبث فيه روح الحياة . أنا ذئب لا يسعى إلا إلى الظفر بطريدة يأكلها . أعترف أنني أملك قلبا قاسيا لا يرحم ، ولكن لم عيناي تشخصان فيه لا تطرفان ، وبدني متيبس لا يتحرك . في ذهني صفاء ، هو خلي من أي حيلة كنت أحيكها للإيقاع بالخراف . تبدلت أحوالي .

  فلأدن منه ولأطلب منه ومن خرافه أن يسامحني . 
     لم ينتبه الراعي إلى أن أشكالا من الطيور حطت على أغصان الشجرة التي يقتعد الأرض جنبها مسندا ظهره إلى جذعها . كانت أعناقها مشرئبة، مدلاة تكاد تنقطع عن أبدانها . كلها تسترق السمع إلى الألحان الشجية فتنهلها نهلا . لم تصدر همهمة ولا خشخشة حتى لا تعكر صفوه .
    قدست رغبته في أن يبقى الآخرون صامتين ، مصغين ، منبهرين .
    تعلمت منه أن تزن نبرات أصواتها لتلد تغريدا ما له مثيل في عالم الطيور.
    وحيته بأن رفعت مناقيرها وأنزلتها تحية التقدير ، ونفشت ريشها .
     كانت الألحان تلج قلوبها فتبكيها .
    هذا الطائر تذكر رفيق صباه وقد رحل إلى الجنوب ، وذاك تذكر ولده وقد رافق زوجه إلى الشمال ، وثالث ورابع ..
       كانت الذكريات تنهمر عليهم كالمطر .
    
   
     خرجت الديدان من جحورها تسعى إلى الشجرة ، وكذلك فعلت الحشرات ، حتى الصرار لم يستطع أن   يقاوم إغراء الخروج من تحت صخرة تؤويه ، ونحا نحو الراعي .

     الأشجار تمايلت وكأن ريحا خفيفة تلمس أغصانها وأوراقها . كانت تؤدي رقصة ما شهدت الغابة مثلها .
    بثت فيها ذكريات أليمة ، تذكرت  السيول التي جرفت أصدقاء أو صديقات  فأبعدتها عنها، وذكريات سعيدة لما حلت عليها طيور من جهات العالم تبحث عن المأوى فآوتها ، بنت أعشاشها ونعمت بالأمان والسلام.
    لم تثقل كاهلها أبدا .
    الأشجار رحيمة بمن يستجير بها.
    هي هكذا منذ القدم.

  الشمس تكاد تغيب .
  ستظلم الدنيا ويعود الراعي إلى بيته ، وتعود الحيوانات إلى الغابة .

 هذه فرصة لا تتكرر مرات عديدة .
 لا تقدر بثمن ، لا تباع ولا تشترى.
 فرصة تجتمع فيها الحيوانات ، المفترسة والمسالمة .

 لحظة كتب عنها الفيل الذي استهواه جنون التأريخ قائلا : هذا يوم الموسيقى الذي آلف بين الصديق والعدو.

    لم ينتبه الراعي إلى أن غرباء عن بني جنسه يحيطون به من كل جانب .

   لم يسمع لغطا ولا صخبا ولا عراكا بين هذه الأبدان المختلفة الأشكال والأحجام .

   كان يسبح في ملكوت الموسيقى ، يرتل آياتها ، لا يخطئ الضرب ولا يبدي تبرما . يميل رأسه ذات اليمين وذات الشمال مستنشقا شذى عطرا لا يحسه إلا العظماء .

  عندما أنهى عمله ، دوت تصفيقات الإعجاب .
   رفع رأسه ليرى من فعل ذلك ، فألفى نفسه أمام حيوانات تتزاحم لتحظى بنظرة من عينيه البراقتين .

    قام واقفا وانحنى إجلالا لها .

    قال مفتخرا :

    _ كان الناس يمرون بي فلا يعيرونني انتباها . كانوا يقولون لي محذرين : انتبه لخرافك فقد يأكلها الذئب أو تسرح بعيدا . لم أكن أحلم أن يأتيني معجبون من عالم آخر . الآن فهمت أن الموسيقى لغة الكائنات كلها ؛ لغة تمحو خلافنا وحروبنا.

     وتفرقوا كل ذهب إلى حال سبيله يردد في نفسه اللحن الذي تنسمه هذا اليوم . 
     لم يكن يوما عاديا . كان يوما سجله الفيل بيوم الموسيقى .
  ولدت كائنات جديدة في هذا اليوم .
  كلها سميت باسم موسيقي .

       

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق