السبت، 11 يناير 2014

"الرحلة العجيبة " قصة للشباب والناشئة بقلم: صبحي سليمان



الرحلة العجيبة
 صبحي سليمان
كبيرة هي المدينة وكل ما فيها مُتشعب ... فالطرقات متجاورة مُتراصة وكأنها شرايين وأوردة عملاق ثائر تجري دمائه مشحونة في أتوبيسات مُكتظة ... وعربات مُهترئة يصدر منها أبخرة قاتلة تنفث سمومها في صدر كُل مارِ وراكب في هذه الطرقات الغريبة التي امتلأت بالبشر من كُل حدبِ وصوب.
ومن بين هذه الأكوام المتلاحمة من البشر يمشي الأب بإعياء من فرط التعب الذي حل عليه بسبب كثرة السير وسط الطرقات التي لا تنتهي ...
إن ( أحمد حسنين ) الأستاذ الجامعي ابن الأسرة الثرية لم يعتد علي هذا الزحام والصخب الذي يملأ أذنيه منذ ساعات النهار الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة ليدخل الليل بظلمته التي تبددت وسط أنوار القاهرة الساحرة ...
أخيراً وجد كرسي فارغ بالطريق اقتنصه علي الفور وجلس بهدوء ليُريح أرجله المُتعبة من كثرة المشي ... ووضع قدم فوق أخري ليهنأ بالكرسي الخشبي الذي كان عنده أفضل من أفخم كرسي جلس عليه في حياته ...
ـ تأمر بأي حاجة يا فندم ...
هكذا تنبه أحمد علي صوت صبي القهوة الذي نبهه للمكان الذي جلس فيه ... فهذا الكرسي موجود أمام أحد المقاهي الشعبية التي لم ينتبه لها ...
تحسس أحمد جيبه علي الفور في هدوء فوجده خالي لأول مرة في حياته ... فتنحنح وهو يقوم في هدوء قائلاً : ـ آسف إنني أريح قدمي قليلاً وسأنصرف الآن.
هُنا طارت الابتسامة من علي وجه القهوجي ونظر لأحمد بغضب؛ وقبل أن يتكلم مشي أحمد بوقار مما جعل القهوجي يهدأ وينتبه للشاي الذي معه ويُقدمه لزبون آخر.
 نظر أحمد لساعته فوجدها قد قاربت علي التاسعة وهو لن يستطيع أخذ عربته من جراج الشركة قبل التاسعة صباحاً ... وللأسف لقد ترك كُل مُتعلقاته الشخصية داخل عربته ... حتي حافظة نقوده نسيها وهو يُخرج لحارس المكان بطاقة تحقيق الشخصية كي يسمح له بركن عربته بهذا المكان المُخصص لعربات موظفي الشركة.
هُنا تنبهت أنف أحمد لرائحة يعشقها كثيراً ... فنظر تجاه الرائحة فوجده محل كباب ... إنها الأكلة المُحببة إلي قلبه والتي اعتاد أن يتناولها في أفخم محلات بلده وبخاصة المحل الموجود بجوار حرم الجامعة التي يُدرس فيها علم الهندسة المعمارية ...
ولكن ماذا يفعل وجيبه خاوي ؟
هُنا مغصت بطنه بقوة لتُخبره بأنها خاوية مُنذ الصباح ... فوضع يده عليها وضغط عليها بقوة كي يمنعها من الأنين ...
لمح الساعة التي معه فقفزت في رأسه فكرة عاجلة فطارت قدماه علي الفور لصاحب محل الكباب وأخبره بأنه سيُعطيه ساعته ذات الماركة العالمية كي يُعطيه وجبة كباب واحدة ...
ضحك صاحب المحل ضحكة سُخرية لم تُعجب أحمد الذي انصرف علي الفور حتى قبل أن يسمع رد الرجل علي طلبه.
تأكد أحمد أن أمله الوحيد في الخروج من هذا الموقف هو أن يبع ساعته الثمينة وينزل في أحد الفنادق لقضاء الليل وفي الصباح يأخذ عربته ويرجع لبلدته الريفية الجميلة.
بعد بحث ليس بكبير وجد أحمد محل ساعاتي دخله علي الفور وعرض عليه ساعته ...
أمسكها البائع وتفحصها بعناية ثُم قال له بهدوء : ـ إنها ساعة مُقلدة وليست أصلية.
تعجب أحمد مما سمعه وقال له بقوة : ـ لقد اشتريتها من أوروبا العام الماضي بمبلغ كبير ... كيف تقول أنها مُقلدة ... إنها ماركة أصلية وغالية الثمن.
أمسكها البائع مرة أخري وهو يقول باستهزاء ... أوروبا ... إنها مُقلدة ولن أشتريها بأكثر من خمسين جنيهاً ... ولن أدفع أكثر من هذا جنيهاً واحداً ...
رفض أحمد هذا المبلغ الزهيد وفضل الخروج من المحل ... ولكن مغصة قوية من بطنه وألم عميق بقدميه نبهاه لخطورة الوضع الذي هو فيه ... فهو مُفلس وسط القاهرة ... وليس له حل آخر سوي هذه النقود ...
نظر للبائع الذي ابتسم بخبث قائلاً : ـ
ـ كي لا تتردد سأعطيك ستون جنيهاً ... يبدوا أنك محتاج لهذا المبلغ ...
أخرج البائع من جيبه كمية كبيرة من النقود وأخذ يعدها واستخرج منها الستون جنيهاً بهدوء أعطاهم لأحمد بعد أن أخذ الساعة منه ...
خرج أحمد من المحل وهو ينظر للنقود الزهيدة التي معه وأخذ يسأل الناس عن فندق قريب من المكان الموجود فيه ... فاهتدي لفندق متوسط الحال دخل إليه بعد تردد منه ...
ـ أريد أن أبيت عندكم الليلة ... بكم تكلفة الحجرة ... ؟
أجابه الرجل بسرعة سبعون جنيها ...
طأطأ أحمد رأسه خجلاً وكاد أن ينصرف إلا أنه لمح قائمة أسعار الفندق وشاهد توقيع وزارة السياحة تحتها ... فأخذه الفضول أن يقرأها فوجد أحد الغرف بخمسين جنيهاً ...
فأشار إليها وهو يقول : ـ معذرة سيدي ولكن هناك أحد الغرف بخمسين جنيهاً.
تنحنح الرجل وهو يقول : ـ إنها نفس الغرفة ولكنها بدون طعام الإفطار.
ابتسم أحمد وهو يقول لن أفطر ... سآخذ الغرفة.
دفع أحمد الخمسون جنيهاً وهو في قمة السعادة ...
استخرج الرجل المفتاح وأعطاه لأحمد ونادي أحد العمال كي يوصل الحقائب للغرفة؛ ولكن أحمد أخبره قائلاً : ـ ليست لدي حقائب ... كما إنني سأخرج قليلاً وأعود في غضون ساعة كي أدخل غرفتي ...
     خرج أحمد من الفندق تحت وطأة مغص الجوع الذي اشتد وبدأ يُزعجه.
سأل أحد المارة عن مكان رخيص السعر يتناول فيه الطعام ... فدله أحدهم عن عربة كشري تقف تحت أحد الكباري ...
هُناك تحت الكُبري الكبير تقف عربة الكشري ومن حولها يقف عدد من الصبية يتناولون الطعام ...
طلب أحمد طبق كشري بخمسة جنيهات وأخذ ملعقة وجلس علي أحد الأرصفة المرتفعة الموجودة بجوار الكبرى وبدأ يتناول طعامه وبدأ الجوع يهدأ رويداً رويداً في بطنه ...
هُنا شاهدهم أحمد لأول مرة ...
شاهد عدد من الأطفال يقفون خلف عربة الكشري وهُم ينظرون لمن يتناول الطعام ... وما أن يُنهي أحدهم طعامه حتى يتدافع عدد منهم للطبق الفارغ ويتناول الفتات المُتبقي فيه بنهم شديد ...
نظر أحمد للطبق الموجود معه فوجده قد انتصف ... فنظر لأحدهم وابتسم له وهو يقول : ـ
ـ تعال يا صغيري ... خُذ هذا الطعام.
ابتسم الصغير وعلي الفور اقترب منه وبدأ يتناول الطبق بنهم ... ولكن فجأة اقترب منه ولد أكبر ضربه علي ظهره وأخذ منه الطبق بالقوة والتهمه علي الفور ...
وهذا ما أغضب أحمد ... نظر للصغير وهو يبكي فربت علي ظهره وقال له : ـ
ـ لا تحزن يا صغيري ... قل لي ما أسمك ...
ضحك الولد الضخم وهو يقول : ـ إنه أخرس لا يسمع ولا يتكلم ... دعك منه يا أستاذ.
غضب أحمد مما سمع وقال بسرعة : ـ سأعوضه عن الطبق الذي أكلته ...
واستخرج الخمسة جنيهات المُتبقية معه وأعطاها للبائع وأخذ طبق كامل وأعطاه للصغير.
ارتسمت الفرحة علي وجه الصغير الذي أمسك الطبق كاملاً لأول مرة في حياته ... وبدأ يتناوله بسعادة غامرة ... ولكنه قبل أن يُنهيه وضع يده علي بطنه دليلاً علي الشبع ... فأعطي ما تبقي منه للولد الضخم الذي كادت أن تخرج عيناه علي الطبق الذي معه.
هُنا بدأت زخات المطر تنزل بهدوء علي المكان المتواجدين فيه وما لبثت أن تزايدت ...
نظر الصغار جميعاً للسماء وأشاروا لبعضهم البعض فابتعدوا في لمح البصر ...
أراد أحمد أن ينصرف ولكن الفضول جعله يتساءل قائلاً : ـ
ـ أين سينام هؤلاء الصغار ... ؟!!
لمح أحمد الطفل الأخرس وهو يقترب من هؤلاء الصغار ليناموا جميعاً أسفل الكوبري الضخم وفوق كمية من الأوراق والكرتون المُمزق ...
هُنا قرر أحمد الرجوع للفندق ونام ليلته فيه وهو يُفكر في حال هؤلاء الصغار الذين لا ذنب لهم سوي أنهم تاهوا من ذويهم في زحام القاهرة التي لا ترحم ...
وفي الصباح استرجع أحمد عربته وما بها من مُتعلقات ... وقرر وقتها أن يهتم بهؤلاء الصغار وان يحل مشاكلهم ... ويُحولهم من أطفال يعيشون علي هامش المُجتمع تنتظر الفُتات والبقايا إلي أيادي نافعة للمُجتمع تبنيه وتقويه ... فلقد عاش تجربتهم لساعات؛ وعلم ما يُعانونه وما يشعرون به ... فلم يكتفِ بالمشاهدة ... ولكنه اعتبر نفسه أباً لهم وبدأ في تغييرهم نحو الأفضل ... وهكذا بدأ الجميع حياة جديدة ...   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق