الجمعة، 13 ديسمبر 2013

" ذاتُ الفَرْو العجيب" قصة للأطفال بقلم: أبوبكر العيّادي

 ذاتُ الفَرْو العجيب

أبوبكر العيّادي


 يُحْكى أنّ رَجُلاً كانَ يَعيشُ وَحيدًا في بَيْتٍ مُنْعَزِل عِنْدَ سَفْحِ جَبَلٍ مُطِلٍّ عَلى الْبَحْر . وَكانَتْ لَهُ مَزْرَعَةٌ صَغيرَةٌ  يَعْمَلُ فيها كامِلَ النّهار، وَعِنْدَما تَميلُ الشَّمْسُ إلى الْمَغيب، يَعودُ إلى بَيْتِه، فيُعِدُّ عَشاءَهُ بِنَفْسِه، وَيُقَضّي السّهْرَةَ أمامَ الْكانونِ يُديرُ خواطِرَهُ في صَدْرِه.

وَكانَ إذا ضاقَتْ نَفْسُهُ وَثَقُلَتْ عَلَيْهِ الوِحْدَة، يَخْرُجُ لِلتَّجَوّلِ عَلى شاطِئ الْبَحْر.

ذاتَ لَيْلَةٍ ربيعيّةٍ مُقْمِرة، بَعْدَ أنْ تَناوَلَ العَشاء، خَرَجَ يَشُمُّ نَسائِمَ البَحْرِ الْمُنعِشَة. وَبَيْنَما كان يَدْنُو مِنَ الشّاطئ، رَأى كائِناتٍ أَذْهَلَتْه.

- آه ! ما هَذهِ الحيواناتُ الْغَريبةُ الّتي ألْقَتْ بها الأمْواجُ على السّاحِل ؟ إنّها تُشْبِهُ أُسودَ الْبَحر !

تَمَلَّكَهُ الْخَوْفُ فَلاذَ بِدَغْلٍ كَثيف، وَأخذَ يَرْقُبُ تِلْكَ الْحَيَواناتِ الْبَحْريّةَ الّتي لَمْ يُشاهِدْها مِنْ قَبْل . وفَجْأةً رَأى شيئًا عَجَبًا كادَ يُخْرِجُهُ مِنْ صَمْتِهِ وَيَفْضَحُ حُضورَه. بَعْدَ أن تَجَمّعَتِ الْحَيَواناتُ الْبَحْريّةُ عَلى الشّاطِئ، جَعَلتْ تَخْلَعُ عَنْها فِراءها، وَتُعلّقُهُ عَلى أغْصانِ الأشْجارِ الْمُجاوِرَة.

ذُهِلَ الرّجُلُ وقال باستِغرابٍ شَديد :

- آآآه !! أكادُ لا أُصَدّقُ عَيْنَيّ ! ما هذه الْمَخْلوقاتُ الْعَجيبَة ؟ لقد تَحَوّلَتْ إلى فَتَيات !؟ لا، لا. لا شكّ أنّي أَحْلُم.

فَرَكَ عَينيهِ مِرارًا ثُمّ أيْقَنَ أنَّ ما يَراهُ لَيْسَ أوْهامًا وَلا أضْغاثَ أحْلام، بَلْ حَقيقَة. بَقِيَ مُخْتبئًا في مَكانِه، يُشاهِدُ الفَتَياتِ الْحِسان وهُنَّ يَرُحْنَ ويَجِئْنَ على الشّاطئ، ويَمْرَحْنَ ويَتبادلْنَ الْحَديث.

قالَتْ إحْداهُنّ :

- أوه ! ما أطْيَبَ الْجَوَّ هَذهِ اللّيْلة !

وقالَتْ ثانِية :

- ما أرْوَعَ هذا الْمَكان !

وَأضافتْ ثالِثَة :

- آه ! لَيتَنِي أبْقَى هُنا، وَأعيشُ مَدى الْحَياة.

فَردّتْ عَلَيْها الأولى بِقَوْلِها :

- أنْتِ تَعْرِفينَ أنّ ذلكَ مُسْتَحيل، إذْ لا حَقَّ لَنا في زيارَتِهِ إلاّ مَرّةً في السّنَة .

نَظَرَ الرّجلُ إلىِ الّتي راقَها الْمَكان وَتَمنّتْ أنْ تَعيشَ فيه، فَأُعْجِبَ بها أيَّما إعْجاب.

قالَ في نَفسِه :

-يا لَها مِنْ فتاةٍ رائعةِ الْجَمال ! لَيتَها تُصْبِحُ زَوْجتي وتُشاطِرُني حَياتي !

ظَلّتِ الْفَتَياتُ يَجْرِينَ ويَمْرَحْن، والرّجُلُ لا يُفارِقُهُنَّ بِنَظَراتِه.

وَعِنْدَما حانَ طُلوعُ الفَجْر، أسرَعتْ كُلُّ واحِدةٍ إلى فَرْوِها فلَبِسَتْه. وما هِيَ إلاّ لَحَظاتٌ حتّى عادتِ الْفَتَياتُ كَما كُنّ  : حيَواناتٍ غَريبةً،  غاصَت في الْبَحْر واختَفَتْ تَمامًا. ومنذُ تلك اللّحظة، صارَ الرّجُلُ يَخْرُجُ كُلَّ لَيْلَة، وَيتّجِهُ إلى الْمَكانِ نَفْسِهِ أمَلاً في عَودةِ تلك الْمَخْلوقاتِ الْعَجيبَة.

ومَرّتِ الأيامُ والأسابيعُ وَالشّهورُ  دونَ أنْ يَطْرَأَ على الْمَكانِ أيُّ طارئ.

وفي لَيلةٍ مِنَ اللّيالي الْمُقْمِرة، بَيْنَما كان الرّجُلُ في طَريقِهِ إلى الشّاطِئ، رأى تلك المخْلوقاتِ تَخرُجُ منَ البَحر، فأحَسَّ بالْفَرَحِ يَغْمُرُ قَلْبَه.

لبَدَ خَلْفَ إحْدى الآجامِ وَراحَ يَرْقُبُها وهيَ تَخلَعُ عَنْها فِراءها وتُعلِّقُها على أغْصانِ الشّجَر، لتَتَحوّلَ في لَمْحَةٍ عَيْنٍ إلى فَتياتٍ حِسان.

انْطَلَقَتِ الفَتياتُ يَمْرَحْنَ على الشّاطئ، فَتَسَلّلَ الرّجُلُ خِفْيَةً، وَسَحَبَ فَرْوَ الْفَتاةِ الّتي نالَتْ إعْجابَه، ورَجَعَ بهِ إلى بَيتِه، فَأخْفاهُ في مَخْزَنٍ صَغير، وأغْلَقَ عَلَيهِ الْبابَ بالْمِفْتاح. وَعِنْدما حانَ طلوعُ الفَجْر، عادَ أدْراجَهُ فوَجَدَ الشّاطئَ خالِيًا إلاّ مِنْ تلك الْفَتاة. كانَتْ أَخَواتُها قَدْ لَبِسْنَ فِراءهُنَّ وانْصَرفْن، وَبقِيَتْ هيَ وحيدةً، تَروحُ وتَجيءُ بَيْنَ الأشْجارِ بَحْثًا عنْ فَرْوها الْمَفْقود. ولَمّا يئِسَتْ، جلَسَتْ عِنْدَ جِذْعِ شَجَرةٍ تَذْرُفُ الدّمْعَ في صَمْت.

دَنا مِنْها الرّجُلُ وَحيّاها :

- صباحَ الْخَير.

هَبّتِ الفَتاةُ مُرْتاعة، وقالَتْ في اضْطِراب :

- مَـ… مَنْ أَنْتَ ؟ وَماذا تُريد ؟

ابْتَسَمَ لَها الرّجُلُ قائلا :

- لا تَخافي. أنا لا أُريدُ بكِ شَرًّا.

ولَمّا اطْمأنّتْ سألَها :

- ماذا تَفْعَلينَ هنا، في هذا الْمَكانِ الْخالي ؟

كفْكَفتِ الفتاةُ دمْعَها ثمّ قالَتّ :

-أنا فتاةٌ غَريبةٌ عَنْ هَذِهِ الدّيار. كنتُ مَعَ أخَواتي، فتَرَكْنَني وَحيدةً وانْصَرفْن .

قالَ لها :

-لا شَكَّ أنهُنَّ سيَرْجِعْن.

فبَكَتْ ثُمّ قالت :

- لَنْ يَكونَ ذلك إلاّ بَعْدَ عام  وَلا …لا أدْري الآنَ ماذا سَأفْعَل، ولا كيفَ سأعيش. أنا لا أعرِفُ أحَدًا في هذِهِ البِلاد.

واساها الرّجُلُ بقَولِه :

- هَوِّني عليك. سأقومُ نَحْوكِ بِما يَقْتَضيهِ واجِبُ الضّيافة. تعالَيْ معي إنْ شِئْت.

نَظرَتْ إليهِ وقالت :

- وَزَوْجتُك ؟ هَلْ تَقْبَلُ بِذلك ؟

ابْتَسَمَ لها قائلاً :

- اِطمئِنّي. أنا مِثْلُكِ وَحيد. ليْس لي زَوجَةٌ ولا أبناء .

رافقَتْهُ الفَتاةُ إلى بَيتِه، فأكْرَمَها وأحْسَنَ إلَيْها حتّى ارْتاحتْ إلَيْه، فأحبّتْهُ وتَزوّجتْه. ولَم يَمْضِ عامٌ حتّى أنْجَبَتْ لهُ طِفْلاً بَهِيَّ الطّلْعَة.

وَمضَتِ الأيّامُ والرجلُ في غايةِ السّعادة، ولكِنّ زَوجتَهُ الشّابّةَ كانتْ تَحِنُّ إلى بلادِها وأخَواتِها، وكانت في غِيابِ زَوجِها، تَحْمِلُ طِفْلَها في حِضْنِها وتتّجِهُ إلى الشّاطئ، فَتَبْقَى ساعاتٍ طَويلةً تَبْحَثُ عن فَرْوِها الْمَفْقود، ثمّ تَجْلِسُ قُبالَةَ البَحرِ تَرقُبُ الأفُقَ وهِيَ تقولُ في نَفْسِها :

-كَمِ اشْتَقْتُ إلى أهْلي وأخَواتي. لَيتَني ألْقاهُنّ. إيه ! لَكَمْ تَمنّيْتُ أنْ أعيشَ هنا، ولكِنّ الفِراقَ صَعْب. إلهي ! مَتَى تَعودُ أخَواتي ؟

ومَرّتْ أعْوامٌ كانتِ الزّوْجَةُ الشّابّةُ في أثْنائها تَسْهَرُ على راحَةِ زَوجِها وتَربيةِ طِفْلِها الّذي ترَعْرَعَ وصار يَجْري ويْلعَبُ ويَمْلأ البيتَ مَرَحًا وسَعادة.

ذاتَ يَوم، غادَرَ الرّجُلُ البَيتَ ونَسِيَ بابَ الْمَخْزَنِ مَفْتوحًا. وكان الطّفْلُ ساعتَها يَلْعَب، فقادتْهُ قَدَماهُ إلى الْمَخْزِن، فَأخَذَ يُفتّشُ أشْياءهُ لَعَلّهُ يَجِدُ ما يُلْهيه إلى أن عَثَرَ على الفَرْو الْمَخْفيّ، فَحَمَلَهُ إلى أمِّهِ وهو لا يَدْري لأيّ شَيءٍ يَصْلُح.

- أمي ! أمّي ! انْظُري ماذا وجَدْتُ !

عندما رأتِ الْمَرأةُ الفَرْوَ أشْرقَ وجهُها فجأةً وسألتِ ابْنَها :

- أيْنَ وجدتَه ؟

أشارَ الطّفْلُ بيَدِهِ إلى الْمَخزِنِ وقال :

- هناك ! في المخْزَن.

أحسَّتِ الْمَرْأةُ أن زَوْجَها خَدَعَها، فَتألّمَتْ لذلك كثيرًا. أخَذَتْ الفرْوَ منِ ابنِها وقالتْ له :

- اسمَعْ يا عزيزي. إيّاكَ أنْ تُخبرَ أباكَ، وإلا فَسَوفَ يَغضَبُ عليك.

سألها الطّفلُ ببراءةٍ :

- لِماذا ؟

أجابَتْهُ أمُّهُ قائلةً :

- لأنك دخلْتَ الْمَخزَنَ دونَ إذْنِه .

ثُمّ تَرَكتْ وَلَدَها، وذَهبَتْ إلى مكانٍ قَريبٍ منَ الشّاطئ، فأخْفَتِ الفَرْوَ وعادتْ أدراجَها.

ولَمّا رجَعَ زوجُها مِنَ الْعَملِ رحّبَتْ بهِ كالعادةِ ولم تُخْبرْهُ بأيِّ شيء. وفي اللّيل، بينما كان زَوْجُها وابنُها نائمَيْن، نهَضَتْ في حَذَرٍ شَديد، فقبّلَتِ ابنَها وعَيناها تَدْمَعان، ثمّ غادَرَتِ البَيت، واتّجَهَتْ إلى الْمَكانِ الّذي أخْفَتْ فيهِ الفَرْو. أخْرَجَتْهُ ولبِسَتْه، وسُرعانَ ما انْقَلَبتْ كما كانَتْ أوّلَ ظُهورِها ، فَغاصَتْ في البَحْر، وحَمَلتْها الأمْواج.

أفاقَ الزّوجُ مِنْ نَومِه فلَمْ يَجِدْها . ظلَّ يَبْحَثُ عَنها كامِلَ النّهارِ، ولَمّا أعياهُ البَحْث، عاد يَجُرُّ أذيالَ الْخَيْبَة. وما كاد يَدْنو مِنَ البَيْتِ حتّى أبصَرَ بابَ الْمَخزَنِ مَفتوحًا.

نادى ابنَهُ وسألَه :

- من فتَحَ بابَ المخزَن ؟

أجابَهُ ابنُهُ :

- وجدتُهُ مَفْتوحًا فَدَخَلْت .

قال لهُ أبوه وهوَ يُحِسّ أنّ قلبَهُ يَخْفُقُ خفْقًا شديدًا :

- هل … هل أخذْتَ منه شيئًا ؟ قُل ولا تَخَفْ.

قال الطّفل :

- وجدْتُ فرْوًا فَسَلّمتُهُ لأمّي.

عندئذ، أدركَ الرّجُلُ أن زَوْجتَهُ هَجَرتْه، وعادتْ إلى أهْلِها وأخَواتِها، فحَزِنَ لذلك حُزْنًا شديدًا. ومنذُ ذلك اليوم، صار كُلَّما هَبَطَ اللّيْل، يترُكُ ابنَهُ نائمًا، ويذهَبُ إلى الشاطئ، فيقِفُ أمامَ البَحر، ويُنادي زوجتَه :

- عُودي إليَّ يا زوجتي العزيزة ! عودي إلى ابْنِك . لا تَتْرُكيهِ وحيدًا. المسكينُ لا يَكُفُّ عنِ البكاء.

ولَكنَّ صوتَهُ كان يَضِيعُ في الْخَلاءِ دونَ أن يظفَرَ بِجواب.

وفي لَيْلةٍ منَ اللّيالي، بينما كان يُناديها سَمِعَ صَوتًا قادمًا منَ البَحرِ يَقول :

- غدًا… في مِثلِ هذا الوَقت… انظُرْ إلى الشّجَرةِ الّتي وَراءك. إن شِئتَ أنْ تَلقاني… فسَتعْرِفُ ما ينبغي عَليك أن تَفعَل. إلى اللقاء… إلى اللقاء…

كاد يطيرُ من شدّةِ الفرَح. ومن الغَد، ما إن هَبَطَ اللَّيلُ ونامَ ابنُهُ حتّى أسْرَعَ إلى الشّاطئ، وَراحَ يَتفَقّدُ الأشْجارَ الْمُجاورة، فَعثَرَ على فَرْويْنِ مُعلَّقَينِ بأحَدِ الأغْصان، أحَدُهُما كَبيرُ الحَجْم، والآخرُ صَغير. فَهِمَ في الحالِ ما قَصَدَتْهُ زَوجتُه، فَعادَ أدراجَهُ مُسرعًا، وأيْقَظَ ابنَه، وجاء بهِ إلى الشّاطئ، ثمّ قال له :

- هل تريدُ أن تَرى أمّك ؟

قال الطفلُ وهو يَفْرُكُ عَينيْه :

- نَعم يا أبي. لقدِ اشتَقْتُ إليها كثيرًا.

قال لهُ أبوه :

- الْبَسْ هذا الفَرْوَ إذنْ لنَذهبَ لزيارتِها.

ارتَدى الرّجُلُ وابنُهُ الفَرْوَين، وسُرعان ما اتّخَذَ كِلاهُما شَكلَ تلك الْحَيَواناتِ العَجيبة.

في تِلك اللّحْظة، سَمِعا صَوتًا قادما منَ البَحْرِ يُناديهِما :

-تَعالَ يا ابني ‍‍! …تعالَ يا زوجي !… أسْرِعا !… أنا في انتظارِكُما !

سارا رُوَيْدًا رُوَيْدًا حتّى دَخَلا البَحْر، وغاصا فيه، وغابا تَحْتَ الأمْواج.

ومنذُ ذلك الوَقت، بدأتْ تَظهرُ في البحْرِ حَيواناتٌ جديدة، نِصفُها إنْسان، ونِصفُها الآخَرُ سَمَكة . تلك هِي  عَرائسُ البَحر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق