الاثنين، 3 سبتمبر 2012

"المارد الأناني " قصة مترجمة للأطفال بقلم: أوسكار وايلد



المارد الأناني
أوسكار وايلد
ترجمة: شمسه الحوسني
في عصر كل يوم، اعتاد الأطفال اللعب في حديقة العملاق عند عودتهم من المدرسة. وتمتاز حديقة العملاق الفسيحة بطبيعتها الخلابة التي تأسر الأنظار، حيث تتناثر فيها الأزهار الساطعة كالنجوم على العشب الأخضر الناعم، إضافة إلى اثنتي عشرة شجرة خوخ تزهر ربيعًا براعم ناعمة تتباين ألوانها بين القرنفلي والرمادي الفاتح، وتثمر فاكهة حلوة المذاق خريفًا.
وتحطّ على الأشجار طيور تشدو بلحنها الطروب الذي يستوقف الأطفال عن اللعب ليستمعوا لغنائها وينصتوا، ويتصايحوا فيما بينهم: "ما أسعدنا بهذا المكان!"وذات يوم، عاد العملاق بعد زيارة لصديقه غول (كورنوا) واستغرقت سبع سنين، حيث إنه بعد أن انقضت هذه المدة من الزمن، ولم يعد لدى العملاق ما يقوله، اعتزم العودة إلى قصره.
وحينما وصل إلى قصره، رأى الأطفال يسرحون ويمرحون في حديقته فصاح فيهم بصوت أجش: "ما الذي تفعلونه هنا؟" وما كان من الأطفال إلا أن فرّوا خائفين. ثم أعقب العملاق قائلاً: "حديقتي هي ملك لي وحدي وهذا أمر واضح، ولن أسمح لأحدٍ غيري باللعب فيها." ولتحقيق غايته تلك، أقام سورًا عاليًا حول حديقته ووضع لافتة كتب عليها: "المتعدّون سيعاقبون"، كان عملاقًا شديد الأنانية. وبعد اتخاذه ذلك الإجراء، أضحى الأطفال الذين لا حول لهم ولا قوة بلا مكان يلعبون فيه كسابق عهدهم فحاولوا اللعب على الطريق إلا أنهم لم يستمتعوا بذلك نظرًا لأن الطريق كان ترابيًا ومليئًا بالأحجار، فما كان منهم إلا أن أخذوا يتجولون حول الأسوار العالية بعد انتهاء كل يوم دراسي، والتحدث عن جمال الحديقة المتخفيّة خلف الأسوار. وكانوا يقولون لبعضهم البعض: " كم كنا سعداء هناك".
أقبل الربيع فلبست الطبيعة ثوبًا أخضرَ وأزهرت الأشجار في كل أنحاء البلاد التي ملأت أغاريدُ الطيور أجواءها باستثناء حديقة العملاق الأناني التي لم ينقضِ فصل الشتاء فيها بعد . فلمّا خلت الحديقة من الأطفال، هجرتها الطيور ولم تعد تكترث للغناء هناك كسابق عهدها، ونست الأشجار إبراز أزهارها. وذات مرة حين رفعت وردة جميلة رأسها من على العشب ورأت اللافتة التي نصبها العملاق، تأسّفت على خلو المكان من الأطفال وما كان منها إلا أن نكست رأسها لتخلد في سبات عميق، فلم يبق أحد هانئًا غير الثلج والصقيع، اللذين صاحا قائلين: " لقد نسي الربيع هذه الحديقة. لذا سنمكث هنا طوال العام." ألبس الثلج العشب رداءً أبيضَ، وخضّب الصقيع الأشجار جميعها بلون فضي، ثم دعيا الرياح الشمالية لتقضي وقتًا معهما، فلبّت الدعوة . التحفت الرياح بالفرو وأخذت تدوي في الحديقة بأكملها حتى أنها دمرت قدور المدخنة . ثم أن الرياح قالت: " هذه بقعة رائعة، علينا أن ندعو البرد لزيارة هذا المكان"، فاقبل البرد ملبيًا الدعوة وأخذ يقعقع على سقف القصر ثلاث ساعات في اليوم مما أدى إلى تكسر ألواح الإردواز، ثم جرى في أرجاء الحديقة بأقصى سرعة لديه حلة رمادية، ينفث أنفاسًا كالثلج . قال العملاق بينما هو جالس قرب النافذة يتأمل حديقته البيضاء الباردة: " لا أستطيع أن أفهم لِمَ تأخّر قدوم الربيع . أتمنى أن يتغير الطقس." ولكن الربيع لم يقبل، ولا الصيف . أما الخريف فقد أخرج ثماره الذهبية اليانعة في كل الحدائق ما عدا حديقة العملاق التي لم ترزق بشيء، وقال الخريف : "إن العملاق أناني جدًا.
" وهكذا بقي الشتاء مخيمًا في حديقته على الدوام . في صباح أحد الأيام، كان العملاق مستلقيًا على أريكته عندما تناهت إلى مسامعه ألحان موسيقية عذبة. كان يتلذذ بسماع تلك الألحان التي توقع أن تكون صادرة عن إحدى الفرق الموسيقية الملكية التي تعزف موسيقاها ترحيبًا بمرور الملك. وفي الواقع لم يكن الأمر كذلك، فتلك الألحان كان يشدو بها التفاحي عند نافذة العملاق. بدت للعملاق هذه الموسيقى وكأنها أفضل وأجمل ما سمعه في حياته على الإطلاق، ذلك أنه لم يستمع إلى تغريد طير في حديقته منذ أمد بعيد. حينها كانت رقصات البرد قد توقفت، والرياح قد هدأت، وصاحب ذلك انبعاث عبير طيب الرائحة انتشر عبر النافذة، فوثب العملاق من على فراشه ليطل من نافذته قائلاً: "أظن أنه الربيع أقبل أخيرًا." ولكن ما الذي رآه؟ رأى منظرًا مذهلاً، فقد انسلّ الأطفال إلى الحديقة من خلال فتحة صغيرة في السور، واتخذوا من أغصان الأشجار مجلسًا لهم، فكان على كل شجرةٍ وقعت عليها عيناه طفلٌ صغير يتربع على أحد الأغصان.
وكانت الأشجار مبتهجة بهذه الرفقة الجذلى، حيث استعادت رونقها وامتلأت بالأزهار وأخذت تلوّح بأذرعها برفقٍ فوق رؤوس الأطفال. وحلّّقت الطيور مغرّدة وفرحة بعودة الأطفال، وفاقت الزهور من سباتها مشرقةً بضحكاتها التي ارتفعت من على العشب الأخضر. إنه لمنظرٌ أخّاذ، فلم يبقَ سوى ركن واحد من الحديقة ظلّ الشتاء قابعًا فيه. إنه ذلك الركن في أقصى الحديقة، الذي كان يقف فيه صبيٌ صغيرٌ جدًا لم يستطع الوصول إلى أغصان الشجرة، فكان يحوم حولها ويبكي بمرارة. تلك الشجرة المسكينة حيث يقف ذاك الصبي كانت لا تزال مغطاة بالثلج والصقيع. وكانت الرياح الشمالية لم تهدأ بعد في ذلك الركن، وقالت الشجرة للصبي: " هيا اصعد أيها الصبي الصغير"، وانحنت قدر استطاعتها، إلا أن بنية الصبي الصغيرة لم تمكّنه من الصعود. فلمّا شاهد العملاق ذلك المنظر، رقّ فؤاده فقال: " كم كنتُ أنانيًا!"، ثم أردف قائلاً: " عرفتُ الآن لِمَ لم ينتعش المكان ربيعًا. سأضع ذلك الصبي على الشجرة، ثم سأشرع في هدم السور لأجعل من حديقتي ملعبًا للأطفال يسرحون ويمرحون فيها إلى الأبد." نَدَم العملاق أشد الندم على ما كان قد بدر منه. دلف إلى السلم، ونزل ففتح الباب الأمامي برفقٍ ثم خرج إلى الحديقة، ففرّ الأطفال خوفًا حال رؤيته.
 حلّ الشتاء من جديد على المكان فخلا إلا من ذلك الصبي الصغير الذي لم يتمكن من الفرار، لأن عينيه قد امتلأتا بالدموع، فلم يستطع رؤية العملاق عند تقدّمه إليه. دنا العملاق من الصبي بحذر فلم يشعره بوجوده خلفه، ثم حمله بلطفٍ على راحته، ووضعه على الشجرة. وسرعان ما أخرجت الشجرة أزهارها، وحلّّقت الطيور الشادية حول عنق العملاق . بعدها مدّ الصبي ذراعيه ليطبع قبلة على عنق العملاق كتعبيرٍ عن شكره له، فطارت الطيور بعيدًا. ولمّا رأى بقية الأطفال هذا المشهد وكيف أن العملاق بدا لهم غير شرير كالسابق، عادوا أدراجهم عدوًا إلى الحديقة، فانتعش المكان بقدومهم ربيعًا من جديد، فقال لهم العملاق: " أحبائي الأطفال . من الآن فصاعدًا هذه حديقتكم." ثم أمسك بفأسٍ ضخم وجعل يهدم السور. بعدها، كلما ذهب أهالي البلدة إلى السوق عند الظهر، وجدوا العملاق يلعب مع الأطفال في أجمل الحدائق على الإطلاق. كانوا يلعبون طوال النهار فإذا أقبل عليهم المساء ذهبوا إلى العملاق لتوديعه . وذات مرة سأل العملاق الصغار: " ولكن أين زميلكم الصغير؟ ذاك الصبي الذي وضعتهُ على الشجرة"- فقد كان يخصّه بحب شديد بعدما قبّله - فأجاب الأطفال: " لسنا ندري، فقد انصرف." فقال لهم العملاق: "يجب أن تخبروه بأن يأتي غدًا." ولكن الأطفال قالوا إنهم ليسوا متأكدين من مكان إقامته وأنهم لم يروَه من قبل فانتاب العملاق حزن عميق.
وفي عصر كل يوم وعند انتهاء اليوم الدراسي، يذهب الأطفال عند العملاق للعب معه، ولكن العملاق لم يلمح بينهم قط الطفل الذي أحبه كثيرًا. لقد كان العملاق لطيفًا مع كل الأطفال إلا أنه كان يتوّق لرؤية أول صديق له من بين هؤلاء الأطفال، فكان كثيرًا ما يتحدث عنه واعتاد ترديد: "كم أودّ رؤيته." ومضت السنون فوهنت عظام العملاق واشتعل رأسه شيبًا حتى أنه لم يعد يقوى على اللعب، فكان يجلس على كرسي ضخم ذي ذراعين ليشاهد الأطفال وهم يلعبون، وفي الوقت نفسه يمتع ناظريه بالتأمل في جمال الحديقة . حتى أنه قال: "لديّ الكثير من الزهور الجميلة ولكني أجد الأطفال أكثر الزهور تألقًا." وفي صباح أحد أيام الشتاء، أطلّ العملاق من نافذته بينما هو يرتدي ملابسه وقد أصبح لا يكره الشتاء لأنه يعلم أن الربيع ما غاب إلا لسنة من النوم فحسب، وأن الزهور توارت لتأخذ قسطها من الراحة. وفجأة أخذ العملاق يدعك عينيه في ذهول، وحدّق ثم حدّق .
إنه حقًا لمنظر عجيب، حيث رأى في الركن الأقصى من حديقته شجرة تكاد تكون مغطاة ببراعم بيضاء تسر الناظرين، تحمل أغصانها الذهبية ثمارًا فضية. وليس هذا فحسب بل كان ذلك الصبي الصغير الذي أحبه العملاق كثيرًا واقفًا دون الشجرة. هرع العملاق في غبطة إلى الطابق السفلي قاصدًا الحديقة، ومهرولاً نحو الصبي حتى دنا منه بعد أن قطع المسافة بخطوات واسعة على العشب يدفعه شوقه لذلك الطفل. وعندما اقترب منه أكثر، اشتعل غضبًا، وصاح: "من ذا الذي فعل بك ذلك؟" إذ رأى العملاق آثارًا لظفرين على راحتي الطفل وقدميه الصغيرتين، فصاح العملاق: "من ذا الذي أقدم على جرحك؟ أخبرني وسآخذ سيفي الكبير وأقطع رأسه." فأجاب الطفل الذي يفيض براءة: "كلا، لا تفعل فليست هذه إلا جروح الحب." قال العملاق مستفهمًا: "من أنت؟". وحينها أحسّ برهبة غريبة داخلته، فجثا أمام الصبي. ابتسم الصبي في وجه العملاق ثم قال له: "لقد سمحت لي مرة باللعب في حديقتك وهآنذا اليوم أودّ اصطحابك في رحلة إلى حديقتي في رُبا الفردوس." وفي ظهر ذلك اليوم وبينما كان الأطفال يركضون في الحديقة، إذا بهم يجدون العملاق جثّة هامدة ممددة تحت الشجرة، تغطّيها البراعم البيضاء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق