الأحد، 22 أبريل 2012

مدينةُ النور''طِيبةُ الطَّيبه '' قصة للفتيان والفتيات بقلم: عزة راجح

مدينةُ النور''طِيبةُ الطَّيبه ''
 عزة راجح - مصر
azza_rag7@yahoo.com

أرضٌ بها سَكنَ الحبيبُ الهادي
غرسَ النواةَ لأمةِ الأمجادِ نبتَ الضياءُ ..
وأثمرتْ أيكاتُها نورُ اليقينِ ..
شهادةُ الميلادِ يا أرضَ طيبة
في البلادِ الطيبه أنتِ الإمام ُ لساعةِ الميعادِ صلي بنا ..
الله أكبر ..
بالثرى تتوضأ الأرواحُ حين تنادي

وقف خلف زجاج نافذة غرفته المطلة على المسجد النبوي الشريف .. يرقب في نشوة الأمطار الغزيرة التي تنساب ، تقبل في حبٍّ وشوق المآذن ..، الأبنية ، الشوارع والبيوت ..
تمنى لو يخرج إليها ..، يغتسل بها لكن منعه خوفه من أمه التي كانت تخشى عليه إذا مس طرفه النسيم ..
اكتفى بأن مد يديه بحذر ، فتح النافذة .. أخرج كفيه ليهطل عليهما المطر وهو يتمتم بصوتٍ هامس ( يا مطره رخي .. رخي .. ) تماما كما كان يسمع في الأفلام المصرية التي لا ينقطع عن مشاهدتها .
لحظات .. و سمع جرسَ التليفون يطيحُ بالهدوءِ في المنزل .. هرولَ إليه .. ، رفعَ السماعة .. فجاءه صوتُ عمه :
- ألو .. محمد كيف حالك ياولدي ؟
- بخير والحمد لله يا عم .
- أين والدك ؟
- مازال بالعمل .
- وجدك ؟
- بحجرته يتلو في كتاب الله .
- هل هو بخير ؟
- بخير والحمد لله .. جميعنا بخير يا عم .
انتهت المكالمة .. عاد إلى النافذة أخرج يديه ..، التقط من المطر بعض من حباته على كفيه ، مسح على وجهه وشعر رأسه منتشيا ..
سمع صوت أمه يأتيه من المطبخ :
- من علي التليفون يا محمد ؟
أجاب وهو يغلق النافذة بسرعة :
- إنه عمي .. وقد أنهى المكالمة .
في المساء .. عندما عاد والده من العمل .. هرول إليه وهو يقول :
- عمي اتصل بك اليوم يا أبي .
- نعم حبيبي .. لقد اتصل بي علي الخلوي حقي .
دقائق .. وجلست الأسرة إلى العشاء .. وجبة ساخنة شهية .. أرز ، لحم ، ومرق .. أشياء كثيرة .. كانت عيونه تتفحصها ، تبحث بها عن الفطائر الساخنة التي يحبها ولا يأكل سواها ..
نظرت أمه إليه ..، وابتسمت وهي تقول :
- لدينا اليوم مفاجأة أهم وأجمل من فطائرك تلك التي تبحث عنها .
حَوَّلتْ الأم ناظريها إلى عيون الجدِّ ..، مالبثت أن غضت البصر وتوقفت عن الحديث.
سارع محمد يتعجلها أن تفصح عن المفاجأة .. فلم يجد إلا الصمت .. وعيونا مؤرقة تتأمل كلَّ العيونِ من حولها .
- سأل محمد أباه : ما المفاجأة يا أبي ؟
- اهدأ حبيبي .. مازال أمامنا الكثير من الوقت .
- ما المفاجأة يا جد .
نهض الجدُّ عن الكرسي .. وغادر المائدة في صمت .
الفضول يدفع محمدا دفعا لمعرفة المفاجأة ..
لكن .. لا فائدة ، انقطع الحديث وساد الصمت .

الثاني عشر من ربيع الأول لعام 1424 هـ

بلاد النور .. !!
من قال أن بلاد النور هناك .. أنا لن أرحل عن هنا ولن أغادر .. سأموت هنا ..، وأدفن هنا .. وأبعث إن شاء الله يوم الحشر هنا .. هنا ولن اغادر .
هكذا كان الجدُّ يقول للأهل والأقارب الذين اجتمعوا في فناء البيت ليقنعوه بالسفر معنا إلى بلاد النور ( فرنسا ) حيث قرر أبي أن يُنهي كلَّ أعماله هنا في المدينةِ المنورة ، ويلحق بعمي الذي يُقيم هناك منذ أكثر من خمسة عشر عاما .. ، يعمل بها كأستاذٍ في الأدبِ المعاصر بجامعةِ السربون .
غمرتني الفرحة وأنا أسمعهم يصفونَ فرنسا .. برج إيفل ، الشانزليزيه ...
إذًا تلك هي المفاجأة التي كانوا يخفونها عني ..، يا لها من مفاجأة " بلاد النور " سنرحل إلي حيث المَدَنِيَّة والتقدم ..، إلى حيث السحر والجمال .. سنرحل إلى بلاد النور .. فرنسا ؟!!
كأن أجنحة نبتت لي .. كدت أطير إلى السماوات العلا ..، وأنا أتخيل الحياة هناك
حيث يكون لي أصدقاء لهم بشرة بيضاء ناصعة البياض وشعر أشقر وعيون بلون السماء الصافية .
ترى هل سأفهم لغتهم الفرنسية ؟
هل سيحبونني ؟
هل سأجد بينهم من يفهم اللغة العربية ( لغة الضاد ) ويبادلني الحديث بها ؟
أطلقت لخيالي العنان .. أسئلة كثيرة تلاحقت في خاطري .. كان آخرها
هل سيسعد جدي هناك ؟
أيقظني السؤال من غفوتي .. نظرت إلى جدي .. فلمحت الألم والانكسار في عينيه ..، ووجدت صدري ينقبض .. أهرول .. أجلس إلى جواره ملتصقا به ..، أضع رأسي على صدره أمام كل الحاضرين دون أيٍّ من خجل .
ضحكت أمي وجدي يمسح على رأسي ..، ينحني .. يقبلني علا صوتها مستبشرا ومهللا وهي تقول :
- إذا فلنرحل من أجل محمد .. فهناك سيحظي بقسط وافر من العلم ..، ونحيا في سلام ..
- وواصل أبي يقول :
- نعم يا أبي ألا ترى كيف أصبحت منطقة الخليج بعد أن غزت أمريكا العراق ودخلتها .. ، بل دمرتها أرضا وشعبا أمام أعين الجميع ؟!!
وتابعت أمي : بل منذ أن اعتدى العراق على شعب الكويت الشقيق.. وفتح صدام باب الشر في المنطقة كلها ..
وواصلت عمتي تقول:
- نعم يا أبي .. ألا ترى ما نحن فيه ..
وعاد أبي يقول وهو ينظر إلى جدي بعينين متوسلتين :
- استحلفك الله يا أبي أن توافق ..، فلن نسعد إلا إذا كنت معنا وبرفقتنا .. ، تباركنا بالدعاء .
كانت عيناي تمران بكل الوجوه ..، لكن .. كانت رأسي مغيبة تماما عن الوعي حوارٌ طويلٌ .. طويل ..، ناقاشات .. توسلٌ إلى جدي .. ، ورجاء .
والنهاية .. كانت كالبداية .. لم يستطيعوا زعزعتة عن موقفه .. هو أعلنها على الملأ لن يرحل ولن يغادر.

في مساء اليوم التالي ..

- نعم شيخ علي .. نعم كما سمعت .. أحاول أن أنهي أعمالي هنا في المدينة .
- سأغادر إلى حيث أخي في بلاد النور .
- نعم سأبيع المصنع .. هل لك رغبة في الشراء ؟
أنهى أبي مكالمته الهاتفية مع الشيخ علي بأنها محلولة إن شاء الله ..، وأن جدي سيقيم مع عمتي .. ونأتي لزيارته في موسم الحج من كل عام
ما بين الفرحة والألم .. انشطر قلبي ..
أريد جدي معي ولا أستطيع أن أفارقه ..، وأريد أن أرحل إلى بلاد النور ..

الأربعاء الموافق الثالث والعشرون من جمادي الأول لعام 1416 هـ

المسجد النبوي
العامود المقابل لقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم

كأنه الأمس القريب .. لم ولن أنساه ما حييت ..
- اليوم .. أتممت سبع سنوات .. هل تعلم حبيبي .. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( علموا أولادكم الصلاة لسبع ... ) .
- هل سأصبح شيخا يا جد ؟
- هنا حبيبي سيشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أننا سمعنا وأطعنا
هنا ستتعلم الصلاة وكيف تحفظ الله وتحبه وتحب رسوله الكريم
- أنا بالفعل أحب الله ورسوله يا جد .. وأحبك .
- إذا .. فلنبدأ الصلاة .. يباركك الله
- الله أكبر
- الله أكبر
انتهت الصلاة .. ومد جدي يده لي وهو يقول بصوت حنون( حرمًا يا شيخ ) مسح على رأسي وقبلني ودعا الله أن يباركني ويحفظني .. نظرت إلى وجهه وهو يدعو .. وجدته يشع نورا وضياء ، كأنه البدر ليلة تمامه .. تمنيت لو يوما أصبح مثله لي لحية بيضاء وعينان يملأهما الخشوع و..
منذ ذلك اليوم لم أنقطع عن الصلاة في المسجد النبوي معه ..نصلي سويا إلى جوار نفس العامود المقابل لقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأنه بات لنا وحدنا وكأننا جزء منه
وكذلك لم أنقطع عن ارتداء الثوب الأبيض ووضع الشال العربي على كتفي والشال والعقال على رأسي تماما كما يفعل جدي ..، ولم أنقطع عن الوقوف في المرآة .. أتفحص وجهي وأتخيل ..
آهٍ يا جد هل يأتي ذلك اليوم ؟!
كم أحبك .

الخميس الموافق الثامن من ربيع الثاني 1425

انتهت الامتحانات .. ، وبدأت الأجازة .. تنفست الصعداء
يوم طيب جميل بجمال طيبة الطيبة " المدينة المنورة " ، ما أجملها من مدينة ويا لها من ساحرة .. لها عطر خاص ونسمات تفوح بعبير زكي يحرك المشاعر.. كم حكى لي جدي عنها وعن ساكنيها .. ولكم كنت أصغي وأتمنى لو يعيش العمر يحكي وأسمع.

طلعَ البدرُ علينا من ثنياتِ الوداعْ
وجبَ الشكرُ علينا ما دعا للهِ داعْ
.....
كثيرا ما كنت أسمعه وهو يجلس في الشرفةِ ينشدها بصوت ودود حنون كأنه يهمس بها إلى نفسه .. أضحك .. أقول له:
- هل تُنشد يا جد ؟!
يضمني إلى صدره وهو يقول:
استقبلَ بها أجدادُنا رسولنا الكريم محمد الهادي صلى الله عليه وسلم .. هنا في المدينه حينما جاء مهاجرا من مكة بصحبة صديقه الصديق ..
يحكي .. واسترق السمع ..، يتوقف عن الحكي .. أقبله وأنا اقول :
- اكمِلْ بالله عليك يا جد .
- غدا حبيبي نكمل إن شاء الله
- وعدٌ يا جد ؟
يُقبلني وهو يقول : وعدٌ يا شيخى الصغير .
وانطلق إلى غرفتي كي أنتظر الغد .. ، بل أتعجله أن يأتي

لكن الآن .. قد تغير جدي تماما ، منذ أن قرر أبي الرحيل إلى فرنسا ..، و تغير كل شئ من حولي .
جدي يكاد لا يخرج من حجرته ..، كأنه يعتصم بها ..
أبي يأتي في المساء ..، يدخل إليه حجرته .. يقبل يديه .. يسأله عن صحته ..، لكنه لم يعد يجيب أيا من الأسئلة ..
فقط .. هو ينظر إليه في ذهول ..، يملُّ أبي السؤال .. ويملُّ انتظار الرد .. فينصرف خارجا من الحجرة دامع العينين يحاول ضبط مشاعره فلا يستطيع إلا أن يهرب إلي حجرة نومه ولا يخرج منها إلا في الصباح .
حتى أنا .. لم يعد جدي يتحدث إلي ، أويحكي لي عن رسول الله وأصحابه .. هجرته .. وغزواته كما كان يفعل .
فمنذ ذلك اليوم .. أصبح ينظر إليَّ في صمت .. يمسح على شعري ويقبلني .. فأجلس إلى جواره إلى أن أملَّ الصمت فأقبل جبينه وأنسحب وهو يقرأ في كتاب الله لا يكاد يرفع عنه ناظريه.
واليوم .. عندما عاد أبي من عمله مساء .. دخل إلي جدي كعادته .. كنت جالسا أمام التلفاز ..، وأمي تعد طعام العشاء .
سألت نفسي .. هل سيغير أبي موقفه من السفر لأجل جدي ؟
فأجابت : إنه لعنيد .
قلت : إذا .. دقائق وسيخرج كعادته منكس الرأس دامع العينين
لكن .. دقائق وسمعت صوتا مدويا يهز أرجاء البيت هزا كأنه الزلزال .. إنه صوت أبي ..
هرولت في فزع إلى حجرة جدي ..، لأجد أبي قد ألقى بنفسه على جسد جدي الممدد في الفراش و راح في نوبة بكاء حاد .. يبكي .. ويردد
لا إله إلا الله
أبي .. أبي .. أنا من فعلت ذلك بك
إنا لله وإنا له راجعون
لا إله لا الله
وقفت في مكاني واجما لا أستطيع الحركة .. كل أجزاء جسدي ترتجف .. توقف عقلي عن التفكير بل .. ، كاد قلبي أن يتجمد في صدري .
جاءت أمي على عجل فوْرَ أن سمعت صوت أبي .. كادت تصرخ لولا أن نهض أبي ..، وضع يده علي فيها ومنعها من الصراخ أو العويل .
دقائق .. ، واحتشد الأهل والأقارب في فناء البيت .. ، الردهة والطرقات .. مشهد غريب .. ماذا أفعل ؟
تسللت في صمت وذهول إلى المسجد النبوي .. العمود المقابل لقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم .. العمود الذي يعرفني وجدي تمام المعرفة وكأننا جزء منه .. فهنا .. وهنا فقط قررت أن أجلس وأنتظر جدي .
كان المصلون قد فرغوا من صلاة العشاء .. والمسجد خال إلا من خادمي المسجد والقليل القليل من الرجال .
جلست إلي العامود ظهري إليه .. وعيناي المتحجرتان .. مسلطتان بل متشبثتان بقبر رسول الله صلي الله عليه وسلم .. قلبي يئن وعقلي كبركان يفور .
فجأة رحت في نوبة بكاء حاد .. ورغم البكاء عيناي تسبثتا بباب القبر لحظات ..
أغشى علي ؟!
كأن باب القبر يُفتح .. ، ينبعث منه نورا كأنه الشمس تشرق .. تنشُر النور من حولي وفي كياني
صُوب النور إلى عينيَّ .. أكاد لا أستطيع أن أفتحهما
وإذا بالنور .. وجوه مشرقة مضيئة أكاد لا أميز ملامحها النورانية .. ، لكن يرتجف قلبي لها غبطة وتسري نشوة في كياني ..
هنا .. خير البرية وإمام الرسل ( محمد الهادي صلى الله عليه وسلم ) ؟!
هنا .. فاروق الأمة ( عمر بن الخطاب رضى الله عنه) ؟!
هنا .. الصديق ( أبو بكر بن أبي قحافة أول من آمن بالهادي من الرجال وشاركه الهجرة والغزوات و.. ) ؟!
الله أكبر .. الله أكبر
يخرج من أحشاء المسجد نورٌ.. نورٌ يُغشي العيون والأبصار .. ، لكن يفتح القلوب وينير البصائر .
وكأن الملائكة تنزل من السماء .. تصطف صفا واحدا ..
من الإمام ؟
أهو ...... ؟!!!
جسدي يرتجف لفرط نشوتي
يندفع البشر إلى المسجد اندفاعا .. وكأن المدينة بأسرها أصبحت مسجدا .. أردية بيضاء ناصعة البياض ووجوها مشرقة مضيئة
الله أكبر ..
الناس يفدون إلى المسجد من كل فج عميق .. يصطفون خلف الملائكة
لم أعد أميز أيهم ملك وأيهم من البشر .
الله أكبر
أين جدي .. ألن يجئ ؟!
أبحث عنه في كل الأرجاء ..
من بعيد .. أراه يجئ .. يسعى سعيا ويسابق ليأخذ مكانه في الصف ..، من خلفه أبي وأمي ومن خلفهم ، حشد كثيف من الأهل والأقارب .. الكل يُسابق كي يجد له مكانا في الصفوف التي باتت كأنها جميعا محض نور
نورٌ يقوم..
يركع ويسجد ..
يدعو .. ويستغفر
يُزلزلني ..
لأفيق من غفوتي أنظر حولي .. أجد المسجد هادئا ساكنا إلا من صوتٍ رخيم يردد على مسامعي :
هنا .. وهنا فقط مدينة النور
طيبة الطيبه
صوت جدي ؟!!
كأنه هو ...

المدينةُ المنورة الثالثُ عشر من صفر لعام 1424 هـ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق