السبت، 10 مارس 2012

"حول الشجرة العجوز" قصة للأطفال بقلم: حيدر غازي سليمان

حول الشجرة العجوز
حيدر غازي سليمان
(1)
أصدقاء الريح
تنفَّست الغابة ضياء الصباح، وهدلت الحمائم مُعلنة بدءَ يوم جديد، فمدَّت الشَّمس الذَّهبية أشرطة النور خَلل الأغصان، تقلَّب عصفور الدوري شادياً بصوتهِ منبهاً الحيوانات التي لم تستيقظ، استبشر السّنجاب للصباح المطل بالبهجة، خَرج من بيتهِ المحفور بجذع شجرة البلّوط العالية، ونظر الى الأرنبة التي أخرجت صغارها قرب أجمتها، والتَهت تبحث عمّا يقتاتون، دار الدوري بالأرجاء، مرَّ على النهر المنساب، رفرفَ فوقه منصتاً لخريره، وقبل ان يحلّق عالياً، لمح الصقور تغزوا سماء الغابة، ففرَّ فزعاً وهو يصيح:
- أصدقاء الريييييح..... لقد عادوا من جديد.....
لجأت الطيور بأعشاشها، واحتمى بعضها بين الأغصان المتشابكة، لفَّت الأرنبة صغارها وتوارت لائذة بأجمتها، ورجع السّنجاب حزيناً، فهدأت الأصوات وعمَّ السّكون المكان.
سُلبَ سرور الغابة بيومها السّاحر، لم يجرؤ احد الخروج، بقي الجميع ينتظر جلاءها، وبالرغم من حالة الرعب التي تملّكت سكان الغابة، كان السّنجاب يطلّ من شجرته العالية بين الفينة والأخرى، ويتسلّل الدوري متوارياً تحت الأغصان الكثيفة، بينما بقت الصقور تدور محلّقة باحثة عن صيد يومها حتى انتصف النهار، فقنطت وعادت محبطة لأعالي الجبال حيث بنت أعشاشها، فوثب السّنجاب صائحاً:
- لقد رحلوا... هيا يا أصدقاء.
خرج الجميع، وبدأوا أعمالهم ليدركوا ما فاتهم من وقت، وَعَلَت بهجة الطيور بين تغريد وهديل وصداح وزقزقة، وتقافزت بضع جرذان بين سيقان الأشجار بحثاً عن الحبوب. وبقي السّنجاب واقفاً على الغصن مجاوراً بيته غارقاً بأفكاره، جمعت الأرنبة طعاماً لأطفالها قرب الأجمة ولم تبتعد عنهم إلا بعد رؤيتها السّنجاب، فاقتربت من شجرة البلّوط الباسقة وبعد عدة صيحات انتبه لها فحادثته:
- هيه يا صديقي... بماذا تفكر؟
كانت الأفكار تتصارع برأسه، وبدا قلقاً، وعيناه تكشفان جدّية ما يفكر به حين قال:
- أيتها الأرنبة اللطيفة... أفكر في وضع حل.
قعدت الأرنبة على عجيزتها، لمضت شفتيها، وَتَساءَلت مخالطاً صوتها القلق:
- حل... أي حل يا سنجاب؟
- اريد ان اضع حلاً لتجاوزات الصقور.
ارتجفت الأرنبة لدى سماعها اسم الصقور، تلفَّتت يمنة ويسرة وَدَنَت من أجمتها وهي تردد بحس فزع:
- هل جننت... أيجرؤ احدنا ان يجابههم؟
- انهم خلق مثلنا... لهم نقاط ضعفهم.
- وهل ستهزمهم وحدك يا صديقنا الباسل؟
نَزَلَ السّنجاب من شجرة البلوط بهدوء ووقف قبالتها محاولاً ان يهيج شجاعتها فقال:
- لو اجتمعت كل مخلوقات الغابة لهزمت الصقور.
ردّت الأرنبة هامسة:
- وصديقتها الريح أنسيتها؟
اهتزَّت الشّجرة العجوز وسط الغابة، تطايرت الأوراق القريبة بفعل الريح فأردفت:
- أرأيت إنها تنذرنا بأنها تسمع ما نقوله... أنت تريد الانتحار..
تركته الأرنبة، فَرَجَعَ السّنجاب الى غصنه، بدأ يفكّر من جديد بوجوب إقناع الغابة للتصدي للصقور.

طار عصفور الدوري مستطلعاً الغابة محاولاً إحصاء الأضرار التي لحقت بسكانها، فسمع حديث السّنجاب والأرنبة، اقترب ليحط قبالته مؤدياً التحية، وقال:
- لا تحزن يا صديقي... سأكون لك عوناً وخير مساعد.
تبسم السّنجاب، ولاحت بشائر الأمل بتقبل فكرته، وقال:
- ها قد أصبحنا اثنين.
قال الدوري وعلامات الجدّ بيّنة في صوته:
- سأتكفل إقناع الطيور، وعليك إقناع الحيوانات... حينها سنكون أكثر من اثنين.
أجابه السّنجاب وقد ائتلقت عيناه، واستبشرت ملامحه، وملأ صوته السعادة:
- يجب ان تجتمع الغابة... علينا ان نجد مكاناً لا تكشفه الصقور ولا سلطة للريح فيه.
رفَّ الدوري بجناحيه، حلّق قبالة السّنجاب، وقال:
- يجب ان لا نضيّع الوقت يا صديقي... سأتداول الأمر مع الطيور.
وطار متنقلاً بين الأغصان.
اتخذت الطيور من أغصان كثة بأطراف الغابة مأوى لها، تستريح فيه قبل رحيل نهارها، وحين وصول الدوري كانت أكثر الطيور موجودة، وثلة من العصافير انزوت بحزن على أغصان قريبة، خاطبها الدوري بصوتٍ عالٍ ليسمع الجميع:
- مالي أراكِ حزينة أيتها العصافير؟
ردَّ احدها بحسرةٍ مؤلمةٍ، وندبت البقية حضها:
- لم نجمع غذاءنا... كنا نحتمي بأعشاشنا خوفاً من الصقور.
صاح الدوري بحنق بان باحمرار وجهه:
- الى متى نبقى نعاني من تجاوزات الصقور... لقد افترست أبناءنا وأصدقاءنا وسلبت حياتنا الآمنة... ونحن... لا حيلة لنا سوى اللوذ بأعشاشنا خائفين...
قاطعته حمامة مستهزئة وقد وجدت فرصة للهزل والتنفيس عن ضجرها:
- وهل تريد مواجهتها يا دوري؟
انفجرت الطيور ضاحكة وعلّق بعضها ساخراً:
- لن نخاف الصقور بعد اليوم والدوري في الغابة.
بدأ الجميع بالضحك والتعليق، حتى استنفدوا هزلهم وسكتوا، حينها قال الدوري:
- يا أصدقائي... انتم لم تسمعوا كلامي لتهزئوا به.
فلم يجبه من الطيور إلا الكروان، خطف من أمام الجميع ووقف قبالته وقال:
- تكلم يا صديقنا... فقد يكون في كلامك حل حقيقي.
عدَّل الدوري وقفته وفتح جناحيه ورمق الجميع بنظرة ليحرز انتباههم وقال:
- يا أبناء جلدتي... ان صديقنا السّنجاب يعد العدة... علينا الاستجابة له، عسى ان نخرج بنتيجة.
استغلّت العصافير سكوت الطيور فاستفسرت:
- وهل بأمكاننا فعل شيء؟
انتهز الدوري الفرصة فأنتقل من غصن الى آخر وسط الطيور وقال مرغباً الجميع بالفكرة:
- علينا ان نتعاون... وسيقرر الجميع أين تكمن الفائدة.
هزَّت الطيور رؤوسها بالموافقة، بعد جدل ونقاش طويلين، فقال الكروان:
- نحن موافقون، سنلبي طلب صديقنا السّنجاب.
حيّا الدوري الطيور بزقزقة لطيفة وعاد مسرعاً ليخبر السّنجاب.
لم تقتنع الأرنبة بالفكرة، ظلت خائفة تكلم السّنجاب بصوت هامس مرتجف، وتنظر بطرف عينها وهي محتمية بأجمتها ممسكة بصغارها قائلة:
- لا أريد ان افقد أبنائي من جديد... اتركني يا سنجاب.
تركها السّنجاب؛ ليثمر لقاءه بكبير الأرانب عن تعهده بإقناع أرانب الغابة كلها مهما كلف الأمر، وقال:
- كان على احدنا ان يمتلك شجاعتك ليفكر بالخلاص من الصقور... وها نحن قد أصبحنا صيداً سهلاً، لا حيلة لنا سوى الاختباء.
تنقل السّنجاب بأرجاء الغابة، كلّم الجميع، فاستطاع إقناع أكثر الحيوانات، وبثَّ كلامه الأمل في نفوس الجرذان، فقال أحدها متشكراً:
- سأمنح حياتي لمن يخلّص الغابة من شر الصقور.
وتقافزت الدموع من مقل السّناجب حين دعاها للمشاركة بالعمل معه فقالت:
- نحن معك يا أخانا حتى وان كان في ذلك حتفنا.
بدأ الأمل يدبّ في الغابة، بعد ما كان جلّ ما يرعبهم انتظار الدور ليكونوا فريسة الصقور. 
وبعد عودة الدوري، انسحبت الريح، فتباحث مع السّنجاب، فوجدا ان لا سبيل لخروج الصقور ليلاً، فحدد الموعد في منتصف الليل، وللهرب من سلطة الريح، قررا ان يكون اجتماعهم ليلة اكتمال القمر، ففيها تنسحب الى الفيافي البعيدة لتستريح خلف الجبال، ووجدا أفضل مكان؛ وسط الغابة عند الشجرة العجوز. وهكذا وقبل ان تعود الريح، أذاع الدوري الخبر للجميع.
(2)
في ليلةٍ مقمرة
أوصى السّنجاب الحيوانات بالكتمان، فالريح تهب متلصّصة بين الفينة والأخرى، وكذلك صنع الدوري، حتى آتت ليلة الموعد؛ انسحبت الريح لتقبع خلف الجبال في الفيافي البعيدة، وانسحبت نسماتها ليسكن كل شيء، احتضنت السماء بدراً منيراً يلقي بنوره فوق الغابة الهاجعة بسكينة، انعكست ظلال الأشجار الباسقات على أرضها. 
تسللت الحيوانات الى مكان الاجتماع، ولم يصدر أي منها صوتاً، حتى الطيور؛ فلم تهدل حمامة، ولم ينعق غراب، وما غرد بلبل، ولا زقزق عصفور، وسكت صداح العندليب، وشدو الكروان.
تجمع الكل، وقفت الطيور على الغصون المحيطة بالمكان، وانتظمت الحيوانات قريبة من بعضها البعض، واتخذ من جذور الشجرة العجوز الناتئة من سطح الأرض منبراً لكل من لديه فكرة يطرحها؛ توزعت عصافير التوت حول المكان للحراسة اذا ما رأت حركة غريبة لتنذر الجمع.
بدأ السّنجاب حديثه:
- يا سكان الغابة... ان حياتنا أصبحت جحيماً لا يطاق... وقد فقدنا ما فقدنا من أعزاءٍ دون استطاعتنا مد يد العون اليهم... فعلينا التعاون والتفكير بوضع حدٍ وتخليص الغابة من شرّ الصقور.
عدَّل كبير الأرانب جلسته وقال:
- ها قد أصبحت عجوزاً هرماً... لقد أتعبنا الاختباء خائفين، وان شئت ان أعيش يوماً آخر، فليكن يوماً أضع فيه يدي بيد السّنجاب، لتعيش بعدي عائلتي بأمان.
أبدت الأرانب المجتمعة تأييدها، فقالت إحداهن:
- كيف ننسى ذوينا الذين افترستهم الصقور ناهشة لحومهم ومبعثرة فرائهم... سنكون معكم مهما كلف الأمر.
قال عصفور الدوري مخاطباً الطيور ليشركهم بالحديث:
- ونحن معشر الطيور، ضاقت علينا السّماء الرحبة، ولم يبق فينا من لم تفجعه الصقور... وعلينا ان نتآزر للخلاص من الصقور.
فصاحت حمامة وخرجت الكلمات منها سريعة:
- لقد فقدت زوجي قبل ثلاثة أسابيع... خرج ليجلب الطعام للصغار فحاصره صقر وتناوشه بمخالبه.
رفع رأسه الكروان بعد ان كان مطرقاً وقال:
- كنا ثلاث أخوة نعيش سعداء... وها أنا اليوم وحيداً بعد ان صار أخوتي طعاماً للصقور، ولن أقف بعيداً عنكم.
وناحت يمامة متذكرة أعزاءها غارقة بالبكاء، وقالت بصوت مغتم:
- ان كانت... خطة... فأنا أشارك...
وقال الجرذ بعد عدة حركات من انفه الصغير:
- تعلمون ان الصقور قلوبها مثل الصخور في الجبال التي تسكنها... ولم يبق في الغابة من لا يدخر لها العداوة.
فارتفعت الأصوات من هنا وهناك:
- نعم... نعم... قساة القلوب...
تفاجأ الجميع بنعقة أفلتت من فم الغراب، فاعتذر وتساءل:
- وهل أحكمتم خطة لذلك؟
تكلَّم السّنجاب وعيون الجميع ترقبه باهتمام منتظرة الجواب:
- هناك خطة يا أصدقائي، ونجاحها مرهون بتعاون الجميع... وهي على مراحل... أولاها؛ الاختباء لعدة أيام، حينها سيضني الصقور بحثها عن فريسة، فتبدأ خطوتنا الثانية.
تساءل كبير الأرانب موسعاً عينيه باستفهام:
- وما هي يا صديقنا؟
نزل السّنجاب عن جذع الشجرة العجوز وتقدم وسط الجمع، أحاطت به الحيوانات وحدقت العيون وأنصتت الطيور، فبدأ بشرح خطته بالتفصيل، وفي عتمة الغابة وصمتها الا من بعض همسات وهمهمات، بدأت المشاورات، وبعد تفكير ملي تكلَّم كبير الأرانب واضعاً يده على كتف السّنجاب:
- انها خطة تنمُّ عن شجاعتك... وأرى فيها مخاطرة كبيرة.
بان على الكروان القلق حين قال:
- قد تكون ناجحة رغم المخاطرة...
قال الدوري حاسماً تردد الجميع:
- ان تعاونا... لن نترك للفشل مجالاً بيننا.
وبعد ليلة طويلة، كاد الصبح ان ينبلج، انفضّ الجمع بهدوء ليهجع كل في مسكنه.
(3)
نهار حذر
بدا الجدّ منذ الوهلة الأولى، الكل يترقب في الغابة، والخوف يملأ القلوب من خطر المواجهة، الصقور تحوم، والسّنجاب يطمئن الجميع محاولاً إشاعة الجرأة في النفوس، وبالرغم من ذلك انهمك الجميع بالعمل، كلٌّ في أداء واجبه، طبقت الخطة بدقة، جمعت الثمار والحبوب في آخر النهار، وبدأ العمل الدءوب لحياكة شبكة كبيرة، أحضرت العصافير أغصاناً طويلة ورفيعة، وحاك الكروان بمنقاره الطويل بمهارة، وجلبن الحمامات أوراقاً كبيرة جعلت من الشبكة تبدو كأنها جزء من ارض الغابة، ثبّتت خيوطها بالأغصان القوية، أما الحبل الرئيس فثبّت على الغصن العملاق للشجرة العجوز، وبعد ان جهزت الشبكة ووضعت منافذ سريّة للهرب لم ينقطع التدريب عليها، انشغل السّنجاب والحيوانات الأخرى بعمل ثان لم يطلع عليه احد، وبعد انجاز العمل لم ينس السّنجاب ان يقرض بعض الأغصان العالية والتي تغطي المكان ليكون مكشوفاً، ومن ثم أكمل تدريبه مع أخوته على الشبكة.
قبع الجميع بمخابئهم يقتاتون على ما ادخروه من طعام، فظلت الغابة وادعة لا تنم عن أي حركة لعدة أيام.
وذات يوم كثفت الصقور الجائعة تحليقها بسماء الغابة، محاولة اقتناص أي حركة لتنقض عليها، تسلل الجميع حذرين لمواقعهم بملامح شابها الخوف من مواجهةٍ أوقفت القلوب وخطفت الأنفاس وغيرت الألوان، وللحظة فكر البعض بالانسحاب. السّنجاب هو الآخر سرى في قلبه الخوف، ولكن عزيمته وإرادته دفعته ليتغلب على خوفه، ولتحقيق هدفه ولّد في نفسه شجاعة كافية حفّزت الجميع ليواجهوا، فقفز على الشبكة متقلباً، فتقافزت السّناجب حواليه والحيوانات تحركت أسفل الشبكة، وأحدثت الطيور ضجة عالية، ورفرف بعضها طائراً بين الأغصان القريبة.
جذب الصوت الصقور الجائعة، وبنظرها الثاقب من خلال المساحة المفتوحة الى ارض الغابة، لمحت الحيوانات تملأ المكان فلم تطق انتظاراً، وأصوات الطيور ألهت مسامعها عن أية حركة أخرى، وأيام طويلة من الجوع لم تصطد فيها فريسة هنيئة دعتها لتنقض دون تردد على نقطة واحدة تجمهرت فيها مخلوقات الغابة، اقتربت من الحيوانات قرباً لم تجربه يوماً، ولا تستطيع الأيام القادمة ان تمحو صورة الصقور وهي تجهز مخالبها البراقة وصوتها الخاطف للأنفاس ومناقيرها التي طالما نهشت أصدقائهم.
انقضت الصقور جميعها، حيث كان السنجاب وأخوته يتقافزون، معرضين حياتهم لخطر قد يودي بحياتهم، جاعلين أنفسهم بمتناول مخالبٍ ما سَلَمَ من قبضتها احد، ولدى اقترابها فرَّ الجميع من فتحات الشبكة ليوقعوا الصقور بالفخ، حينها أعطى الدوري اشارته، وبلحظة واحدة تخاطفت عشرات الطيور يحملن خيوط الشبكة ليغلقنها بأحكام، انتفضت الصقور محاولة النجاة فزادت حركتها احكام الشبكة لتتهدل معلقة على غصن الشجرة العجوز، عقدت الخيوط بأحكام وبحركةٍ سريعةٍ ومتقنة، وقبل ان تستنجد الصقور بصديقتها الريح، تفاجأت الغابة بالجرذان تقرض الحبل الرئيس الحامل للشبكة لتسقط على ارض الغابة.
كان من لم يطلع على الخطوة الثالثة من الخطة، يحسب ان الشبكة ستسقط على ارض الغابة، فقد أنجزها السّنجاب باحتراف وتمويه كبيرين. نظرت الصقور الى الأرض، لم يكن هناك ما يثير شكها، فالأوراق تملأ المكان والقش يغطي المساحة كلها، وبضعة أغصان متساقطة هنا وهناك، ولدى وقوع الشبكة غاصت بالأرض، غاصت بحفرة مليئة بالماء، فالسّناجب والأرانب والجرذان كانوا طوال الليل يحفرون حفرة كبيرة تحت الشبكة، ملئت بالماء، وغطيت بالقش وأوراق الأشجار، فبدت كأرض الغابة، لكنها كانت كافية لاغراق الصقور.
أحدثت الصقور ضجة دعت الطيور تفرُّ لائذة بأعشاشها، وتركت الحيوانات المكان خوف انفلات الشرك، تسلَّق السّنجاب شجرة البلوط محتمياً ببيته، و فرَّ الدوري لملاذه، و اعتصمت الأرنبة مرتعبة بأجمتها القريبة من المكان، وأغمضت عينيها وهي تحيط صغارها، فأطبقت السماء أجفانها لتغط الغابة بصمت عميق.
أسفر وجه الصباح عن بشرى، كان صباحاً جديداً على الغابة، تسللت أشعة الشمس الذهبية ناثرة القها، وانعكاسات الندى تضفي رونقاً جميلاً، فزقزقت العصافير مبتهجة، وجال الدوري بين الأغصان منادياً:
- نجحت الخطة...
ضجت الغابة بالفرح والسرور فتقافزت الحيوانات راقصة، وحلّقت الطيور عالياً، وفي أعماق الغابة، كانت الحيوانات تعمل بجد على طمر الحفرة، حتى سوّيت الأرض واختفى كل شيء.
(4)
انتقام الريح
تعاقبت الأيام بهدوء، عادت الغابة الى طبيعتها، صارت أوقات الحيوانات حرة، تجمع غذاءها بأمان، وتلهو بلا خوف وتتنقل متى تشاء، وحدها الريح بدا صوتها كئيباً مغتماً، تصفر بعمق مخيف، تحرك الأغصان فتطير الأوراق الذابلة وتنكسر صغار البراعم، تمر على الصخور في أعالي الجبال وتعوي عند أعشاش الصقور الفارغة.
راحت الحمامة ترتفع متقلبة متحدية، ومن فرط سعادتها بالانتصار نسيت وصايا السّنجاب بالكتمان ، فأفلتتم كلماتها:
- لن يمنعنا احد من التحليق بعد اليوم...
وزلّ لسانها فصاحت:
- لقد هزمنا الصقور... سقطت بفخنا وهلكت...
سمعتها الريح فغيرت من مسارها، صفرت بشدة فملأ صدى صفيرها الغابة، رفعت الحمامة لحظة ثم ألقت بها مخذولة بين الأغصان ، وبدأ عواؤها يزداد وعصفها يشتد، استدارت مشكلة دوامة لتمر بسرعة مجنونة على الغابة، اقتلعت الجذور الرخوة وكسرت الأغصان المتيبسة، وانكشفت الآجام وتطايرت الأعشاش وتهشم البيض وتفرقت العصافير بين الأغصان، همَّ السّنجاب مسرعاً لبيته فأسقطه عصفها وارتطم بالأرض متوجعاً، ولم يسلم أي من سكان الغابة.
بدت الريح محتقنة غاضبة منذرة بهجوم يجتث أعمق الجذور، استمر عصفها ولم تهدأ حتى المساء، حينها انسحبت خلف الجبال تلملم أذيالها لتشن هجومها المنتقم.
استغل السّنجاب الوقت ودعا الى اجتماع طارئ عند الشجرة العجوز، حلّق الدوري ليعلم الجميع وسرعان ما لبت الغابة نداءه.
نظر السّنجاب بأسى الى الأغصان المتكسرة والأعشاش المتناثرة وقال:
- لقد عرفت الريح بأمرنا... علينا ان نعد العدة.
صرخت العصافير مستنكرة وصوتها يخالطه العويل:
- نعد العدة... أية عدة... انظر حولك فلم يبق ما نحتمي به.
صاحت الأرنبة محتجة:
- لقد اقتلعت أجمتي.
قال الأرنب العجوز محاولاً امتصاص غضب الجميع:
- ان استطعنا صيد الصقور بشباك... فهذه الريح يا أصدقائي بماذا سنصطادها؟
تكلّم الكروان مستعبراً وبصوت يائس:
- أتعلمون ان الريح تتأهب لمهاجمتنا... وأحسن حل هو انتهاز الفرصة والفرار... فلم تعد هذه الغابة آمنة.
تعالت أصوات الطيور من هنا وهناك مؤيدة الكروان:
- نعم... نعم... نرحل... نغادر... نهرب... لم يبق ما نحتمي به.
بان الاستياء بوجه السّنجاب، هزَّ رأسه متأسياً وقال:
- يا أصدقائي... ما يحزنني خوفكم الذي يدعوكم لهجر موطنكم لا الريح.
تسائل الدوري محلّقاً قبالة السّنجاب:
- نحن ضعفاء يا صديقي... وليس لدينا حل بديل...
ردّ السّنجاب وهو يحكم قبضتيه:
- هزمنا الصقور بتعاوننا... علينا التصدي للريح... وان قررتم الهرب خائفين فلن أغادر الغابة... هذه الأغصان أغصاني، ولدت عليها ولعبت في صغري بينها... هي بيتي وملاذي في كبري ولن أتخلى عنها.
قال الدوري وقد اغرورقت عيناه بالدموع:
- وأنا أيضا لن أتخلى عن موطني... وان خسرت حياتي... أنا معك يا سنجاب.
صاح احد الطيور:
- يا أصدقائنا ليس من الهين ترك الغابة... وليس لدينا حل بديل.
تلفت السّنجاب لينظر الى الطائر المتكلم وقال:
- علينا جميعاً التفكير لأنقاذ الغابة.
ردَّت عليه السّناجب متقافزةً قربه:
- فكروا بسرعة قبل نفاد الوقت... والا فأن الهرب الحل الأمثل، فلا مكان للاختباء وسط هياج الريح.
وفي تلك اللحظة، بين السّجال والنقاش والبحث عن مخرج، اهتزَّت الشجرة العجوز فطقطق خشبها بقوة، وفتحت بجهد عينيها ونظرت للمجتمعين تحتها، رفرفت الطيور حواليها ونظرت الحيوانات بدهشة دعت البعض الأبتعاد بضع خطوات، وظل الجميع ينظرون، وبصوت عميق عمق جذورها دعت أشجار الغابة للاستيقاظ ثم قالت:
- يا سكان الغابة... لقد شهدت نمو هذه الغابة شجرة شجرة... وعاش على أغصاني الكثير الكثير من الطيور... ولاذت بجواري الحيوانات... وها ان الخطر محدق بالجميع، لذا علينا ان نتعاون.
وبين دهشة الجميع، استبشر السّنجاب وبدا له مخرجاً قد ينقذهم، وبعد صمت دام للحظات قال:
- اذا ساعدتنا الأشجار ... نستطيع مواجهة الريح.
صاح الجميع وأصواتهم مملوءة بالرجاء لمخرج مما هم فيه:
- وكيف ذاك؟
لمعت عيناه بالأمل وخطة ذكية تلوح بإبتسامتة المشرقة:
- ستهاجمنا الريح بعد ان تجمع قوتها خلف الجبال... وستتفاجأ بمقاومة الغابة...
وراحَ السّنجاب يشرح خطته، ووسط وجوم الجميع ضحكت الشجرة العجوز ضحكة قوية وقالت:
- يا سنجاب... ان نجحت الخطة سأمنحك بيتاً في جذعي.
(5)
الغابة الجديدة
صاحت الشجرة العجوز بصوتها العميق فأيقظت الغابة:
- يا أشجار الغابة... ان الخطر محدق بالجميع فاستجبن لخطة السّنجاب.
اهتزت الأشجار مستجيبة، تمايلت يميناً وشمالاً، تقدمت كبارها معانقة صغارها بفروع قوية وطويلة، وغطت أغصانها الكثة كل ثغرة، مدّت أشجار التوت جذورها متمسكة بالأرض، وشكلت بجذوعها الصلبة دعامة أساسية كي لا تسمح للريح بالنفاذ في عمق الغابة، تشابكت الشجيرات مع الفروع القوية فلم تبق ثغرة الا وسدت بغصن قوي فبدت الغابة كسد منيع، اختلطت الأغصان بكل أنواعها، والأوراق بشتى الوانها وأحجامها، فصارت كقطعة واحدة رغم أشجارها المختلفة.
صاحت الشجرة العجوز ثانية:
- يا أشجار الغابة... هذه أرضنا فلا تسمحن لريحٍ محاولة أجتثاثنا.
أغمضت الأشجار عيونها، وتشبثت بجذورها الممتدة عميقاً. احتمى الجميع عند جذور الأشجار العملاقة والصخور عند النهر المنساب، تجهزت الغابة للنداء المنذر بهجوم الريح، النداء المنذر بعصف يكتسح الغابة مقتلعاً أعمق جذور، استجاب الجميع الا السّنجاب وعصفور الدوري، بقيا في البيت المحفور بجذع شجرة البلوط ولم يبرحا المكان. اغمض السنجاب عينيه فمرت صور طفولته متتابعة، كان صغيراً يتقافز فوق الأغصان حيث الشمس متألقة، ترسل دفأها للساكنين بسلام، وسماء صافية غرست في نفسه حب الغابة وسكانها، وأغصان طرية بطراوة روحه علمته كيف يحوك حياته ليجعلها متجانسة مع نسيج الغابة، تشبث السّنجاب بكل شيء، ببيته، بشجرة البلوط، بأحلامه، وبأرضه الطيبة. وتذكر الدوري كل لحظة عاشها، وكل ثمرة ذاق حلاوتها، وكل غصن احتواه وشجرة لاذ بها، فكر ان كل ورقة في هذه الغابة تستحق عناء النضال من أجلها، وفي أعماقه، كان هناك ضوء أمل وصوت يردد (سننتصر)، وبالرغم من ذلك ارتجف جسمه خوفاً على كل شيء، الأغصان العالية، والسماء الصافية التي يبصرها كل صباح، خاف ان يزول كل شيء، حينها أغمض عينيه وتمسك مع صديقه السّنجاب.
كان كل شيء يترقب، بدأت الغبرة ترتفع معلنة قدوم الريح، اقتربت بسرعة وضربت الغابة بقوة فتمسكت الأشجار وطقطقت أخشابها وصرخت الشجيرات وتكسرت الأغصان الصغيرة، عصفت الريح فحركت الجذور من أعماقها لكنها بقيت متمسكة بالأرض مقاومة. ما انفكت الريح تضرب الغابة، والأشجار تتمايل يمنة ويسرة وتارة تنحني انحناءاً مخيفاً تكاد فيه أغلظها تنكسر الى نصفين، تجردت أكثرها من أغلب أوراقها، فازداد عواء الريح حتى مرت متقلبة الى الجهة الثانية من الغابة بعد ان كُسر هجومها، لملمت أذيالها وجمعت قوتها وعلت غبرتها معلنة هجومها الثاني، هجوماً يجتث الغابة بضربة واحدة. تكورت متحولة الى دوامة مخيفة وبلمح البصر عصفت ثانية.
صاحت الشجرة العجوز معطية اشارتها بصوت عال اهتزت الغابة مستجيبة لها، فانفرجت الأشجار الى صفين مشكلات ممراً يفضي الى وجه الجبل، وبلمحة مرت الريح بسرعة هائلة ولم يعترضها سدّ، انزلقت عبر الممر بين الأشجار بسرعتها لتقذف نفسها بوجه الجبل، فهدر صوتها وعوى ففتتت الصخور قوتها وابتلعت الكهوف أعصارها ليضيع صفيرها في عمق الجبل، وشيئاً فشيئاً تحولت الى نسيم هاديء.
انجلت الغبرة وتنفست الغابة الصعداء، ارتخت الأشجار لتعود الى حالها، اخرج السّنجاب انفه من فتحة بيته وتشمم النسيم ثم قفز على الغصن فرحاً، وحلّق الدوري قربه مستطلعاً بعدة التفاتات وضع الريح، فصاح الأثنان بفرح غامر وسرور:
- لقد انتصرت الغابة.
خرجت الحيوانات غير مصدقة، ولم تمتلك الأرنبة الشجاعة للخروج مكتفية بابراز رأسها، وظلت بعض الطيور ترتجف من خوف الهلاك، حتى عادت أنفاسها تدريجياً وحينها لم يتمالك الجميع أنفسهم، فارتفعت البشرى، وغنى الجميع بفرح، لتختلط أنوار الشمس مع أنغام الطيور ورقص الحيوانات. فبنيت الأعشاش وعدلت المساكن، وتسلّق السّنجاب أعالي الأشجار، منح نظراته الى الأرض المنبسطة حول الغابة وقد تناثرت فيها البذور والحبوب، وراح يفكر بالغابة الجديدة اذا ما فاضت السّماء بالمطر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق