الخميس، 23 فبراير 2012

"البئر العجيبة " حكاية شعبية للأطفال بقلم: يعقوب الشاروني

البئر العجيبة
من كتاب" أجمل الحكايات الشعبية"
يعقوب الشاروني
يحكى أنه كان لإمرأة ابنتان: احداهما دائمة العمل والابتسام اسمها" أمينة " والثانية دائمة الغضب والصياح، اسمها " جميلة " .
وكانت أمينة المبتسمة النشيطة تساعد أمها في كل عمل.
أما جميلة العابسة، فكانت كسولة، تتهرب من أي عمل.
كانت أمينة تحلب الأبقار ، وتنظف البيت ، وتصنع الزبد والجبن، وتخبز الخبز ، وتغزل الصوف.
أما جميلة فلم تكن تحلب أو تنظف أو تغزل ،أو تقوم بأي عمل، واذا ذهبت أمينة إلى السوق أو إلى المدينة المجاورة، لشراء بعض حاجات المنزل من طعام أو أدوات، كانت جميلة تترك البيت بغير تنظيف، ووعاء الخبز فارغاً، واللبن دون غلي.
وذات صباح توجهت أمينة المبتسمة إلى البئر لإحضار ماء في الدلو، وركعت على حافة البئر، ومالت بجسمها فوق فتحتها لتسحب الدلو إلى خارجها.
ولكنها مالت بجسمها أكثر مما يجب، فقدت توازنها، وسقطت في البئر...وأخذت تسقط وتسقط إلى أسفل وأسفل ...


فقدت المسكينة وعيها، فلما أفاقت، وجدت نفسها راقدة فوق حشائش خضراء يانعة، في حديقة واسعة ، تغمرها أشعة الشمس المشرقة، وتمتلئ بآلاف الورود الحمراء.
وكم دهشت أمينة عندما وجدت دلو الماء ممتلئاً بجوارها.
وقفت الفتاة ونفضت العشب عن ثيابها، فشاهدت ممراً وسط الورد والحشائش، وقبل أن تخطو خطوة ناحية الممر، سمعت الورد الأحمر يصيح بها:
" انتظري..انتظري..العطش يقتلنا والماء بجوارك.. امنحينا الحياة برش الماء علينا".
تلفتت أمينة حولها، فوجدت الحديقة تمتلئ بآلاف الورود الحمراء، ومع ذلك لم تتردد في أن تستجيب لدعوة الورد، الذي سيذبل بسبب حاجته إلى الماء.
ورفعت الفتاة الدلو، وأخذت تملأ كفها بالماء، وترشه على الزهور الحمراء، وتتنقل مبتسمة من مكان إلى مكان، تروي ذلك العدد الهائل من الورد الأحمر.
وأخيراً فرغ الماء من الدلو، لكنها كانت قد منحت الماء لكل ورد الحديقة الأحمر.
وعادت تتابع السير في الممر الذي كانت قد شاهدته، فسمعت الورد الأحمر يضحك ويقول:
" ليجعل الله لوني الأحمر في وجنتيك ، ولا يجعله في عينيك !! "


وسألت أمينة نفسها في حيرة: " إلى أين سيؤدي بي السير في هذا الطريق؟! "
وفجأة شاهدت فرناً تشتعل النار في أسفله، وفي أعلاه عدد كبير من أرغفة الخبز الناضجة. ودهشت الفتاة اذ لم تجد احداً بجوار الفرن. وزادت دهشتها عندما نادتها الأرغفة من داخل الفرن في رجاء: " نرجوك... أخرجينا من هنا، وإلا احترقنا تماماً ... لقد نضجنا من زمن طويل " .
عندئذ تقدمت الفتاة المبتسمة من الفرن، وأمسكت بقضيب من الحديد وجدته بجواره، وأخرجت الخبز ، رغيفاً بعد رغيف ، ثم استأنفت سيرها.
عندئذ همس الفرن: " ليجعل الله لون قلب الخبز الأبيض في بشرتك، ولا يجعله في شعرك".
واصلت الفتاة سيرها إلى أن مرت بشجرة برتقال، امتلأت أغصانها بالبرتقال الأصفر الكبير، ودهشت الفتاة لهذا العدد الكبير من البرتقال الناضج، وزادت دهشتها عندما نادتها شجرة البرتقال قائلة: " أرجوكي ... هزيني .... هزي أغضاني من فضلك .. لقد نضج برتقالي كله من زمن طويل ، وسيفسد اذا ظل على مكانه فوق أغصاني ..." .
ولم تتردد الفتاة المبتسمة ، وهزت الشجرة، فتساقط البرتقال كالسيل، ولم تتبق برتقالة واحدة فوق الشجرة.
ثم استأنفت سيرها والشجرة تهمس: " ليجعل الله لون برتقالي الأصفر في شعرك، ولا يجعله في بشرتك".


واستأنفت الأخت المبتسمة سيرها، إلى أن وصلت إلى منزل صغير غريب الشكل، تغطي حوائطه مربعات بيضاء وسوداء، وقد أطلت من إحدى نوافذه امرأة عجوز قبيحة الشكل.
وعندما تطلعت أمينة إلى أعلى، وشاهدت المرأة العجوز، ملأ الخوف قلبها، وأخذت تجري.
لكن العجوز نادتها بصوت لطيف ، وقد انفرجت أساريرها:
" لا تخافي يا ابنتي العزيزة. ادخلي منزلي، وتعالي نتحدث معاً ".
ورغم القبح الذي كان يملأ وجه العجوز ، فقد بدت ملامحها بشوشة، وصوتها يفيض طيبة ورقة، فزال خوف الفتاة ودخلت المنزل.
وعرضت العجوز على أمينة المبتسمة أن تعيش معها في منزلها، وقالت لها:
" يمكنك أن تساعديني في أعمال البيت، واذا وجدت منك المعونة الصادقة، سأعاملك كأنك ابنتي الحقيقية " .
ووافقت الأخت المبتسمة على أن تبقى في منزل السيدة العجوز.
قالت السيدة العجوز:
" يمكنك أن تقومي بكل أعمال المنزل، فإذا قمت بها بطريقة ترضيني ستجدين عندي كل ماتحتاجين إليه. وأهم ما أوصيكي به، أن تعتني بفراشي عناية خاصة. إن عظامي هشة رقيقة، واذا لم يكن الفراش ليناً مستوياً، سيؤلمني جسمي، ولن أستطيع النوم".
وأقبلت أمينة على العمل بأمانة وإخلاص، بعد أن أحست بعطف السيدة العجوز وطيبتها، وحلاوة حديثها وألفاظها ، وأدت الفتاة كل أعمال المنزل برضا وإتقان، خاصة تسوية سرير السيدة العجوز.
وأعجبت السيدة العجوز بالطريقة التي كانت تسوي بها الفتاة المبتسمة سريرها، كما أعجبتها طريقة الفتاة في القيام بكل أعمال المنزل، فعاملتها بكل حب وحنان، وأعطتها كل ما تريد.
وهكذا عاشت أمينة أياماً سعيدة، لم تسمع خلالها كلمة قاسية.
ولكن بعد فترة من هذه الحياة الهانئة، أحست الفتاة بحنين إلى أسرتها وبيتها، فشعرت بالحزن والاكتئاب.
ورغم الفارق الكبير بين الحياة المريحة التي اكتملت لها كل أسباب السعادة في بيت السيدة العجوز، وبين الحياة القاسية في بيت أمها، فقد ذهبت إلى السيدة العجوز، وقالت لها:
" لقد لقيت منك كل معاملة طيبة في أثناء إقامتي هنا، لقد عاملتيني كأنني ابنتك، لكنني أشعر بحنين شديد إلى أمي وأختي، لذلك أرجوكي أن تسمحي لي بالعودة إلى أهلي".
قالت السيدة العجوز: " يسرني أنك ترغبين في العودة إلى أهلك يا أمينة، أيتها الفتاة المبتسمة، إن هذا وفاء منك لهم، وما أجمل الوفاء للأهل وللأصدقاء. كما كنتي وفية لعشرتي، وأمينة على خدمتي .. هيا تعالي معي ".
وأمسكت العجوز بيد أمينة، وقادتها إلى المكان الذي وجدت فيه الفتاة نفسها بعد أن سقطت في البئر.
والتفتت العجوز ناحية البئر وقالت:
" يا بئر..يا بئر..اجعلها تلبس الذهب الكثير".
" يا بئر..يا بئر .. اجعلها تلبس الحرير الكثير".
وما أن قالت العجوز هذه الكلمات، وجدت الفتاة نفسها ترتدي ملابس فاخرة من الحرير الغالي، وانهمر فوقها سيل من قطع النقود الذهبية. والتصقت القطع الذهبية بكل أجزاء الملابس الحريرية الفاخرة، حتى غطى الذهب الفتاة من قمة رأسها إلى أطراف قدميها.
قالت السيدة العجوز:
" هذا الذهب كله لك خذيه معك، فهو المكافأة التي تستحقينها مقابل عملك معي، ومساعدتك لي ".
وفجأة اختفت العجوز، ووجدت الفتاة نفسها في الطريق بالقرب من دارهم.
وما أن بلغت فتاة البيت، حتى رأت الديك يقف على السور، وعندما رأى الفتاة المبتسمة يغطيها الذهب، وقد احمر خداها، وابيضت بشرتها، واصفر شعر رأسها، صفق بجناحيه وصاح:
" كوكو .. كوكو .. لقد عادت إلينا فتاتنا الذهبية !! " .
ودخلت الفتاة إلى أمها وأختها ، وأخذت تحكي لهما ما حدث لها، وقالت: " لقد عشت في بيت سيدة عجوز، عاملتني بكل حب وحنان.
لقد اعتبرتني كابنتها. إن كل هذه القطع الذهبية هي مكافأتي على الخدمات التي قدمتها إليها. خذي يا أمي كل هذا الذهب وسنعيش به سعداء معا " .


وعندما سمعت جميلة، الأخت العابسة، قصة أختها، ورأت الثروة العظيمة التي عادت بها، أرادت أن يكون لها مثلها، وشجعتها الأم قائلة: " اذهبي أنتي أيضاً يا جميلة، لتعودي بالذهب".
وانطلقت جميلة العابسة، وجرت إلى حافة البئر، ثم قفزت داخله.
وحدث لجميلة نفس ما حدث لأمينة، فعندما فتحت جميلة عينيها، وجدت نفسها فوق حشائش الحديقة الواسعة، وسط الورد الأحمر، وبجوارها دلو الماء. وكانت تريد أن تصل بأقصى ما لديها من سرعة إلى منزل السيدة العجوز، لكنها مع ذلك سمعت الورد الأحمر يطلب منها أن ترشه بالماء.
وتلفتت جميلة حولها وعبست ثم قالت:
" كيف أستطيع أن أروي كل هذا العدد الضخم من الورد؟! هذا عمل شاق، يستغرق مني وقتاً طويلاً، وأنا أريد أن أصل بسرعة إلى بيت السيدة العجوز". وتركت الماء في الدلو، وتركت الورد الأحمر يعاني العطش والذبول، وهرولت في الطريق إلى منزل السيدة العجوز وهمس الورد الأحمر خلفها قائلاً: " ليجعل الله لوني الأحمر في عينيكي، ولا يجعله في وجنتيكي " .


ووصلت جميلة إلى الفرن، وسمعت الخبز يناديها، راجياً اياها أن تخرجه قبل أن يحترق، لكن جميلة قالت في عبوس : " أخاف أن تحترق أصابعي، أو تتسخ ملابسي". وتركت الخبز يحترق في الفرن.
همس الفرن خلفها: " ليجعل الله لون قلب الخبز الأبيض في شعرك، ولا يجعله في بشرتك " .
وعندما قابلت شجرة البرتقال، وسمعتها تقول: " من فضلك هزيني " .
استمرت جميلة في سيرها وهي تقول عابسة: " سوف يقع البرتقال فوق رأسي ويؤلمني ! " . وتركت البرتقال يفسد فوق الشجرة.
وهمست الشجرة خلفها: " ليجعل الله لون برتقالي الأصفر في بشرتك ولا يجعله في شعرك".


ووصلت جميلة العابسة إلى بيت السيدة العجوز، لكنها لم تشعر بأي خوف عندما وجدتها تطل من النافذة.
ودعت العجوز جميلة العابسة أن تعيش معها وتساعدها، ووعدت الفتاة بأن تساعد العجوز، لكن أفكارها كانت منصرفة إلى قطع الذهب التي ستنالها في مقابل عملها !!
وأطلعت العجوز الفتاة العابسة على كل ما يجب أن تعمله في المنزل.
وفي اليوم الأول استجابت جميلة لطلبات السيدة العجوز، مدفوعة بأمل الحصول على الذهب الكثير، وقامت بتسوية الفراش كما يجب.
لكن في اليوم التالي، أخذت تتكاسل وتهمل في واجباتها، ووتظاهر بأنها تقوم بإعداد الفراش، من غير أن تفعل شيئاً حقيقياً.
وفي اليوم الثالث، لم تعد تتظاهر بالعمل، بل استيقظت متأخرة، ثم بحثت عن مكان تختفي فيه عن بصر السيدة العجوز لتفكر في الذهب ونسيت العمل. ونادتها السيدة العجوز وسألتها عن سبب امتناعها عن العمل، فعبست جميلة وقالت: " لماذا تطلبين مني أن أعمل؟ إن فراشك لين ومريح، فما الداعي بأن أقوم بتسويته كل يوم؟! والبيت لا تظهر فيه القذارة، فلماذا ننظفه ؟! سأستريح اليوم من العمل ".


وعندما ذهبت السيدة العجوز، إلى غرفة جميلة، وجدتها مستلقية في كسل على فراشها، فقالت لها: " انهضي أيتها الفتاة ، اليوم تعودين إلى منزلك" .
ولم تكن جميلة تريد أن تسمع إلا هذه العبارة، فقالت لنفسها: " سأحصل الآن على الذهب" .
وأمسكت العجوز بيد الفتاة العابسة، وقادتها إلى جوار البئر.
والتفتت العجوز ناحية البئر وقالت:
" يا بئر ..يا بئر.. اجعلها تلبس الحبر الكثير".
" يا بئر ..يا بئر..اجعلها تلبس الخيش الكثير".
وما أن قالت العجوز هذه الكلمات، حتى وجدت الفتاة نفسها ترتدي ملابس خشنة من الخيش القاتم، وقد انهمر فوقها سيل من صبغة سوداء قاتمة، التصقت بشعرها ، وكل جسمها وملابسها.
قالت السيدة العجوز: " هذه الصبغة السوداء ، هي المكافأة التي تستحقينها مقابل عملك معي، ومساعدتك لي".
وفجأة اختفت العجوز، ووجدت الفتاة نفسها في الطريق بالقرب من دارهم.
وعلى سور فناء البيت، شاهد الديك الفتاة العابسة حمراء العينين، بيضاء الشعر، صفراء الوجه، تغطيها الصبغة السوداء ، فصفق بجناحيه وصاح: " كوكو.. كوكو .. لقد عادت إلينا فتاتنا السوداء".


وظلت البقع السوداء عالقة بالفتاة العابسة الكسولة، إلى أن تعلمت كيف تتخلى عن الكسل والعبوس.
لكنها لم تتعلم إلا بعد سنوات طويلة.

هناك تعليق واحد: