الثلاثاء، 4 أكتوبر 2011

"أبي نجار السواقي" قصة للأطفال بقلم محمد ماهر قابيل

أبي نجار السواقي 
محمد ماهر قابيل 

من ذكريات طفولتي ،،،
****************
مازلت أذكر يوم امتحان اللغة العربية ، وأنا تلميذ في مدرسة قريتي الابتدائية . جمع الأستاذ "علي" – مدرس الفصل – أوراق الإجابة ، وراح ينظر إليها بسرعة وهو ساخط ، ثم أخذ يسخر من زملائي فبشر "محمود" ابن الصول "حسنين" بمستقبل باهر في تجارة الماشية ، ووعد "صلاح" ابن شيخ البلد بوظيفة غفير تحت قيادة أبيه ، ونصح "سمير" ابن الصراف أن يقضي وقته في خيام الموالد ، وأعطى "حسن" ابن ناظر المدرسة صفراً كي يتباهى به بين زملائه ،ثم أمسك ورقتي بإعجاب ، ونظر إلي في عطف وقال : ما شاء الله زادك الله من فضله يا بني .
وفي طريق عودتنا إلى بيوتنا التف حولي زملائي ، وأخذوا يسخرون مني ، فقال "حسن" " والله ونفعت يا ابن نجار السواقي !! وانفجر الجميع بالضحك وتتابعت تعليقاتهم الجارحة ، فقال لي "خيري" أن أبي يدق في رأسي مسامير الذكاء ، ووصفني "سمير" بأنني أدور في ساقية النجاح ، وسماني "صلاح" المنشار ، وختم "محمود" سلسلة الاستهزاءات بأن ذكرني أنها مجرد أيام أقضيها حتى يضطرني الفقر إلى اللحاق بأبي في مهنته .


أحسست بالطريق طويلاً لشدة حزني من سخريتهم ، وعندما وصلنا إلى الجسر تفرقنا إلى بيوتنا ، وفي البيت حاولت أن أهرب من أحزاني بمراجعة دروسي فلم أستطع .
خرجت من بيتي والضيق يملأ صدري .. فانطلقت أسير بين الحقول تغالبني الدموع ، حتى لا قاني الشيخ "عبد الحميد" إمام مسجد القرية . بادرني بالسلام ، وقد لفت نظره ما ظهر على وجهي من أسى ، فسألني عما أفعل في هذا المكان ، فاستحيت أول الأمر أن أصارحه بما أحس به في نفسي ، حتى استطاع بلباقته أن يحملني على الإفصاح ، فرويت له ما حدث في الفصل، وما قاله أستاذي وما قاله لي زملائي وسخريتهم من مهنة أبي الذي يعمل نجاراً للسواقي .
فأخذني الشيخ "عبد الحميد" وهو يضع ذراعه على كتفي ، وأجلسني بجواره على المصطبة التي أعدها تحت الشجرة الكبيرة التي توجد في حقله .
ثم أشار بإصبعه إلى الحقول الممتدة على مدى البصر ، ودار بيننا هذا الحوار .
- ترى ماذا تعطينا الحقول الواسعة ؟
- تعطينا القمح والخضروات والفاكهة وغيرها .
- هل يمكن أن نعيش من دون القمح ؟
- هذا أمر صعب يا سيدي .
- هل يمكن أن نصنع ملابسنا إذا لم نزرع القطن ؟
- لا أظن يا سيدي .
- هل نحصل على اللحوم والألبان إذا لم تجد المواشي ما تأكله من مزروعات ؟
- بالتأكيد لا يا سيدي .
ثم نظر إلي وسألني : هل يمكن أن تعيش هذه المزروعات دون أن نرويها بالماء ؟
فأجبته بسرعة : لا .. لا يا سيدي ، ستموت جميعها ولن تجد ما تتغذى عليه .
ثم التفت إلي الشيخ "عبد الحميد" وأمسك بيدي وقال :
أظنك الآن قد فهمت وعرفت أننا لن نأكل بطول لسان زملائك ، ولن تغنينا سخريتهم عن القمح و الذرة والقطن والخضر والفواكه ، فإذا كف أبوك عن صنع سواقينا وإصلاحها ، فلن نجد في هذرهم ما يطعمنا ويكسونا ، اسمع يا بني إن عقك يسبق عمرك ، وأنا راضٍ عن جدك دأبك وإنك ستتعلم – إن شاء الله- حتى تصبح رجلاً نابهاً له شأن . شرح كلام الشيخ "عبد الحميد" صدري .
وفي اليوم التالي عدت إلى المدرسة مرفوع الرأس موفور الكرامة ، وجاءت حصة الحساب ، ووزع الأستاذ أوراق الإجابة على التلاميذ ، فلما وجدوا أنني قد حصلت دونهم على الدرجة النهائية ، عادوا إلى همزهم و لمزهم مرة أخرى فلم أبال .
وأخجلهم إعراضي عنهم . فكفوا بعد قليل عن سخفهم ، وآليت على نفسي بعدها أن أضرب لهم المثل الذي تعلمته من الشيخ " عبد الحميد" فلم أكن أبخل على واحد منهم بعون ، ولم أحاول أبداً أن أرد على إساءة بمثلها ، فلم يجدوا عندي حين يتطاول بعضهم على مهنة أبي سوى إعراض لا يطول .
وذات يوم ، في أحدى حصص اللغة العربية ، طلب منا الأستاذ "علي" أن نكتب في موضوع التعبير عن شخص أثر في حياتنا تأثيراً خاصاً ، لم أتردد في أن أكتب بثقة :
إن الشخص الذي أثر في حياتي ليس عالماً أو فيلسوفاً إنه أبي .. نجار السواقي ، وقرأ الأستاذ "علي موضوع التعبير فامتدح أسلوبي ، وأعطاني درجة عالية ، وزاد على ذلك أن كافأني مكافأة رمزية بأن أهداني قلماً ملوناً ، تشجيعاً لي على الاستمرار في التوفيق ، وطلب مني أن أخرج وأقف بجواره ، ثم أمرني أن أقرأ الموضوع الذي كتبته على زملائي .
وكان الأمر مفاجأة لي .. وفي هذه اللحظة تذكرت على الفور كلام الشيخ "عبد الحميد" فتمالكت نفسي ، وقرأت بصوت واضح واثق موضوع التعبير ، فرأيت على وجوه زملائي تقديراً يشوبه الخجل ، وكان الأستاذ "علي" واقفاً على مقربة مني ، يحيطني بنظرات الإعزاز ، حتى إذا فرغت من القراءة دوى الفصل كله بالتصفيق الحار ، وتلقاني الجميع سعداء مهنئين
وأصبح هذا اليوم نقطة التحول في حياتي كلها ، فازددت حباً لمدرستي وزملائي .
وازدادت ثقتي بنفسي وأصبحت أحرص على مشاركة الزملاء في كل نشاط من أنشطة المدرسة بعد أن كنت منطوياً على نفسي ، مبتعداً عن كل ما عدا دروسي المقررة .
فذهبت مع زملائي في رحلة إلى الفيوم . واشتركت في تنظيم معرض فني عن تطور وسائل الري في بلادنا ، وافتتح هذا المعرض في احتفال مهيب ، حضره مع ناظر المدرسة وأساتذتها زائر كبير من رجال التعليم ، وعندما سألني الضيف عن سر اهتمامي بهذا الموضوع ، وعن مصادر معلوماتي المتنوعة عنه أجبته بثقة .
إن حياتي ترتبط ارتباطاً أساسياً بماء النيل ، كما أن أبي نجار سواقٍ .
وفي نهاية العام الدراسي أقامت المدرسة حفلاً بهذه المناسبة ، وكان أبي بين أولياء الأمور الذين دعتهم المدرسة لحضور هذا الحفل ، فاستقبله الناظر مرحباً ، وصحبه بنفسه إلى حيث جلس ، وقد قدم فصلنا في هذا الحفل مسرحية قصيرة ، قمت فيها بدور نجار السواقي الذي يقنع بالقليل ، ويكره الظلم ويتحالف مع إخوانه الفلاحين .
وفي هذا الحفل أعلن ناظر المدرسة عن اختياري طالباً مثالياً لتفوقي وأخلاقي وتعاوني مع زملائي ، ثم دعا أبي إلى إلقاء كلمة أولياء الأمور بوصفه أباً للتلميذ الذي اختارته المدرسة طالباً مثالياً لها .
وصعد أبي مسرح المدرسة وأنا سعيد به وفخور .
ووقف يتحدث بطلاقة عن اعتزازه بالعمل ، واحترامه للعلم ، وشكر ناظر المدرسة وأساتذتها على جهودهم الموفقة في تنشئة جيل يتحلى بالقيم والفضائل ، ثم ذكرهم أن الناس كلهم لآدم وآدم من تراب ، ولا فضل لأحد على أحد إلا بتقوى الله وبالعمل الصالح .
وعاد أبي إلى مكانه وسط تصفيق الحاضرين وإعجابهم ببلاغته ، ووقفت في نهاية الحفل إلى جواره ، مفتخراً به ، نصافح معاً زملائي وأولياء أمورهم ، وأنا أحمد الله على توفيقه لي ، وأن جعل أبي نجاراً للسواقي .
وبعد ذلك انتقلت من المدرسة الابتدائية ، بعد أن أنهيتها بنجاح وتفوق ، ومن بعدها المرحلة الإعدادية ..
ثم تابعت الدراسة ، وحصلت على الشهادة الثانوية بتفوق ، والتحقت بكلية الهندسة ، وكان مشروع التخرج عن آلة مبتكرة لري الأراضي الزراعية ، وبعد تخرجي عملت مهندساً للري ، وأدركت أن النجاح الدراسي إنما هو بداية النجاح الأكبر ، فتفانيت في عملي ، ووهبته كل حياتي : أجدد ، وأبتكر ، وأطور ..
إلى أن جاء اليوم الذي توج فيه عملي بترقيتي إلى منصب مدير الري ، في نفس المنطقة التي نشأت فيها ، والتي عاش على أرضها أبي من قبل ، وأوصاني بها من بعده .
وفي أول يوم لتسلمي العمل كمدير للري ، استقبلني زملائي في العمل استقبالاً حسناً ، وأقاموا لي حفلاً بهذه المناسبة ، وكانت هذه اللحظات مليئة بسعادة غامرة لا يشوبها غرور أو كبر ، فقد مرت على خاطري أحداث حياتي كلها وكأنها فيلم .. فشكرت الله عز وجل على ما أعطاني .
وتسابق الجميع في الإشادة بكفاءتي وإخلاصي ، وتفاني في العمل ، وحرصي على الإطلاع على كل جديد في مجالات الري ، وأظهروا نحوي مشاعر الاعتزاز والحب ، ووجه أحدهم الحديث إليّ متسائلاً عن سر حبي الشديد لعملي ، وإخلاصي الزائد له ، وجهودي الدائمة من أجله .
وحينما جاء دوري في الحديث ، شكرتهم على كريم صنيعهم ، ورجوت أن يستمر تعاوننا جميعاً لصالح أمتنا ، وأن نتخلص من حب النفس ومن الغرور .
فالإنسان مهما أنجز فهو توفيق من الله عز وجل .
وختمت حديثي إلى الجميع الحاشد من زملائي قائلاً بثقة :
أيها السادة . إنكم تساءلتم عن سر حبي الواضح لمهنتي ، وطلبتم إلي أن أجيبكم في كلمتي على هذا التساؤل !! السر هو أنني منذ صغري تعلمت درساً عظيماً هو أن العمل أيّاً كان نوعه هو شرف وعبادة .إن السر أيها الإخوة هو القدوة ، فقد كان أبي نجار سواقٍ ..

نقلا عن:
http://maialswayan.blogspot.com/2011/04/blog-post_28.html

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق