فاطمة هانم طه محمد
دقات خافته علي باب مكتبي، دخل بعدها شاب في مقتبل العمر يرتدي ملابس ضباط الشرطة تلمع علي كتفيه نجمة صفراء، وعلي ملامحه بسمة تريح النفس، شعرت لأول وهلة أني اعرف تلك الابتسامة العذبة وهذا الوجه الأسمر أطلت النظر إليه في محاولة لتذكره ابتسم وقال : أما تتذكرينني؟
قلت في تردد : ربما تكون أنت من خطر علي بالي ألان ولكني غير متأكدة
قال : نعم عبد الله أنا عبدا لله ماسح الأحذية الصغير
هتفت في فرح وأنا اشد علي يده: عبد الله .. أهلا وسهلا ما هذا أصبحت ضابطا؟
قال وهو يشر إلي كتفيه في فخر : كما ترين حضرتك .. حققت أملي وحلم أمي رحمها الله
قلت في حماس: اجلس اجلس يا عبدا لله أهلا وسهلا أنا سعيدة أن أراك هكذا .. مبروك
تذكرة الآن أول يوم رأيت فيه عبد الله كان هذا منذ حوالي سبع سنوات لمحته يومها يمر عبر ممرات الهيئة التي اعمل بها تعجبت من وجوده في جهاز حكومي، صبي صغير يحمل صندوقا خشبيا ويمر علي مكاتب الموظفين يعرض عليهم تنظيف أحذيتهم ، ابتسمت وأنا مشفقةعلي سنه الصغيرة
عدت إلي ما كنت أنجزه من أعمال ونسيت أمره و بعد قليل وجدته أمامي يبتسم في هدوء ابتسمت أنا الاخري أشجعه علي الحديث قال : هل ترغبين في تنظيف حذائك؟
نظرت إلي حذائي ..أنه نظيف .. ولأني لا أريد أن اترك الفرصة تمر دون ان اعرف قصة هذا الصبي قلت بسرعة : نعم نعم تعال .. ادخل..
دخل وأغلق الباب خلفه بهدوء ..خلعت حذائي .. أسرع يتناوله من علي الأرض قبل أن تصل إليه يدي ..جلست علي مكتبي أكمل عملي لاحظت يديه تعملان في سرعة عجيبة كان يعمل في نشاط وإتقان وبراعة، فراشاته سريعة، تعمل علي جلد حذائي حتي اصبح للحذاء بريق عجيب زاد إعجابي ببراعة الصبي فبدأت أتجاذب معه الحديث
قلت أشجعه علي الحديث : ألا تشعر بالتعب ؟
قال : كلا انه عملي وانا احبه اريد ان يكون متقنا جدا حتي اكون راضيا عن نفسي
قلت في دهشة : هل اتقانك لعملك يريحك ويسعدك؟
قال وهو يبتسم ويعرض علي الحذاء: جدا فعندما يلمح الحذاء في يدي هكذا اشعر بالراحة
أعجبتني كلماته تأملته، كان صبي في حوالي الرابعة عشر من عمره ، صحته جيدة ، فارع الطول اسمر البشرة يرتدي جلبابا ، كأهل الريف ، يبدو من لهجته انه من أهالي وجه قبلي بصعيد مصر، زاد فضولي لأعرف المزيد قلت بماذا أناديك يا ..؟
قال وهو مستمر في عمله:عبد الله
قلت : هل أنت من وجه قبلي ؟
قال في اعتزاز : نعم من محافظة أسيوط
قلت : تعيش مع أهلك هنا في القاهرة ؟
قال : لا إنهم هناك في قريتنا أما انا واخي عبد الرحمن نعمل هنا
ازدادت دهشتي وفضولي وقلت : هل أخوك اكبر منك ؟
قال : نعم انه يبيع الذرة المشوية
كان مازال مستمرا في عمله دون توقف قلت : وأين تسكنان يا عبدالله ؟
قال : نحن نسكن مع عشرة من أبناء قريتنا نعمل جميعا هنا في القاهرة
قلت : عشرة تسكنون معا في حجرة واحدة؟
قال في اسي : لا ليس حجرة نحن نسكن علي سطح المخبز فيسعنا جميعا
قلت استوضح الامر :تسكنون السطوح؟
قال: نعم نحن ننام فوق سطح المخبز..صاحبه يؤجره لنا كل منا يدفع عشرة قروش في الليلة وفي الصباح يذهب كل منا الي عمله
ابتسمت في اسي وسألته :جميعكم تعملون في مسح الاحذية وبيع الذرة المشوية؟
قال :لا بعضنا يبع التين ألشوكي أيضا
قلت : وهل انتم مستريحين علي سطح المخبز؟
قال في ابتسامة راضيه : لا يهم الصيف حار ونوم السطح متعه كلها شهران ونعود الي بلدتنا
سرني تفاؤله و نضج تفكيره رغم صغر سنه .. قلت : تعودون في زيارة لبدتكم؟
قال : لا نعود قبل دخول المدارس انا في الاعدادية واخي في الاول الثانوي جميعنا ندرس ونحضرالي هنا في الاجازة لنعمل وندخرارباحنا لنعود بها الي القرية
قلت في دهشة : ولماذا تعملون وانتم تدرسون هل اسركم فقراء الي هذا الحد؟
قال في فخر: لا انهم مستورون ولكننا نعمل في الاجازة الصيفية لنعول أنفسنا ونعفي اهلنا من مصاريف الدراسة ..نحن الآن رجال ويجب ان نعتمد علي أنفسنا
قلت وانا ابتسم : وماذا تتمني ان تكون عندما تنتهي من دراستك يا عبد الله ؟
تنهد في ياس وقال : ضابط شرطة امي تريد ذلك .. تردد دوما ..املي ان اري عبد الله ضابط شرطة كبيرا
قلت : ولماذا تقولها هكذا في يأس.
لمحت الدموع تتجمع في عينيه وهو يقول : انه امل بعيد المنال يا سيدتي فقريتنا كلها ليس فيها ضابط واحد من اهلها .
قلت اشجعه : لا يوجد مستحيل .. ربما تكون انت هذا الضابط في يوم من الايام.
عاد الي عمله وهو يردد في ياس : لا اظن .. لا اظن
قلت اسمع مني نصيحه ربما تعينك علي تحقيق املك
تطلع الي في لهفة وهو صامت
قلت : تخيل الوان قوس قزح في قلبك تجد الحياة مبهجة تشرح صدرك وتعينك علي النجاح والوصول الي ما تريد
قال في دهشة : كيف اجعل الوان قوس قزح في قلبي ؟
قلت : حب دراستك وتمسك بها كما تتقن عملك الان ولا تدخر مجهودك لعمل اخر ربما لا يجيء ابدا ولا
تخف من الفشل فالخوف منه غالبا ما يكون السبب الذي يمنعك من الاندفاع بكل طاقتك الي طريق
النجاح .. ابتسم عبد الله يومها وهو ينصرف شاكرا
تأملته ثانيا وقلت وانا انظر اليه في دهشة : ياه مرت الايام بسرعة .. مبروك انا سعيدة جدا ان رايتك يا عبد الله
قال وهو يجلس : الله يبارك فيك .. ولكن هذا كله يرجع إلى تشجيع حضرتك لي كانت كلمات حضرتك عن قوس قزح دائما تعينني علي مواجهة المتاعب والأحزان ، خاصة بعد أن ماتت أمي وأنا في الثانوية العامة ،فكنت أتخيل ألوان قوس قزح تملأ نفسي وتبهجني فأتغلب علي ما يعترضني من مشاكل قلت : فعلا يا عبد الله هذا شعاري ، دائما اعمل به قلتها لك يومها حين رأيت الدموع تتجمع في عينيك كنت يومها صبيا صغيرا يأسا من تحقيق املك
قال : طوال تلك السنين الماضية كنت اشعر بالحنين لمقابلة سيادتك ولكني أجلت الحضور لحين تخرجي .. اليوم فقط تخرجت من كليه الشرطة ، وجئت إلى هنا مباشرة.. اشعر أنني أزف هذا الخبر السعيد إلى آمي يرحمها الله ، كنت دائما اشعر أن الله دبر مقابلتي مع حضرتك في ذلك اليوم ، لأكون كما انا ألان، كانت كلماتك قوة تدفعني من نجاح إلى نجاح، راح عبد الله يقص علي كيف كان يقسم وقته بين المذاكرة والعمل في الإجازة حتى حصل علي الثانوية العامة.
قال : بكيت يومها كثيرا وأنا أتقدم بأوراقي إلى كلية الشرطة تذكرت حلم أمي رحمها الله ، يومها شعرت بالخوف وخيبة الأمل ، تقدمت بأوراقي وليس عندي ادني أمل أن أكون ضابطا، ترددت في بادئ الأمر ولكني تذكرت كلمات حضرتك ، فشعرت بالاطمئنان، بعد أن شاعت الوان قوس قزح المبهجة في نفسي ، يومها صممت علي ألا ادع شيئا يمنعني عن تحقيق أملى وأمل أمي رحمها الله.
حين قام مودعا ، ابتسمت وأنا أ شد علي يده متمنية له حياة سعيدة تذكرت أخاه عبده الرحمن سألته عنه قال : الحمد لله اصبح معلما في مدرسة قريتنا .
ذهب عبد الله وجلست أنجز عملي يملؤني نشاط عجيب وكأن ألوان قوس قزح قد انتشرت حولي في كل أركان الحجرة .