الثلاثاء، 8 فبراير 2011

"العندليب والوردة" قصة للأطفال بقلم أوسكار وايلد

العندليب والوردة
أوسكار وايلد
تـرجمة : حميد الهجامي

صاح التلميذُ في حُرقة : " وعدتني بأن تراقصني إذا أهديتها وردةً حمراء. ولكن ليس تمث و لا وردة حمراء واحدة في كلّ الحديقة".
ومن على عشّه الصغير في سنديانة الحديقة، سمع العندليبُ شكوى الشاب، فعجب لأمره وشرع يراقبه مستغرباً من بين الأوراق.
اغرورقت عينا الشاب بالدموع وهو يُكرّر صيحته: "لا ورود حمراء في حديقتي كلها". ثم أخذ يتمتم في حُزنٍ شديد:
"آه، كم هي بسيطة الأشياء التي تخلق السعادةُ ؟. لقد التهمتُ كلّ ما كتبه الحكماءُ، و أسرار الفلسفة لم تعد خافية على عقلي، ومع ذلك ها هي ذي وردة حمراء تتسببُ في تعاستي؟".
فقال العندليبُ: " أخيراً وجدتُ العاشق الأصدق. لقد تغنّيتُ به ليلةً بعد ليلة، ورويتُ حكايته للنجوم ، دون أن أعرفه، وها أنذا الآن أراه أمامي بشعرهِ الأدكن من زهرةِ الياقوت، وشفتيه الأكثر احمراراً من الوردة التي يبحث عنها. ولكن العذاب الذي يعتمل صدره جعل وجهه أشحب من العاج الأصفر،والألم وضع ختمه على جبينه".

وهناك في البستان كان الشاب لما يزل يتمتم ويقول: " يُقيم الأمير حفلةً راقصة مساء الغد، وستكون محبوبتي من ضمن الحضور. إن استطعتُ أن أجلب لها وردةً حمراء، سنرقصُ معاً حتى بزوغِ الفجر. إن استطعتُ أن أجلب لها وردةً حمراء، سأطوقها بين ذراعيّ، وستسندُ رأسها على كتفي، و يدي ستضعط على يدها. ولكن لا ورود حمراء في حديقتي. لذا، سأظل جالساّ و منسياً، لن تكترث بي وسيتحطم قلبي حينها".

فشرع العندليب يهجس إلى نفسه قائلاً : " إنه بالتأكيد العاشقُ الأصدق؛ فما أتغنى به يتجسّد في معاناته، وما يبهجني، يسبب له الألم القاسي. الحب حتماً شيءٌ رائع. أعزّ وأغلى من جواهر الدنيا، فلا تستطيع اللآلئ شراءه، ولا هو مما يُشترى في الأسواق، ولا مما يكتنزه التجار في خزائنهم، ولا يُمكن وزنه في الميزان حتى مقابل الذهب".

وتابع الطالب الشاب مناجاته: "سيعلو صوتُ القيثارة والكمان، وترقصُ حبيبتي على أنغامهما بخفّةٍ ورشاقةٍ دون أن تلامس قدماها الأرض، ويتحلق حولها المعجبون من كل حذب و صوب. ولكنها لن تراقصني لأنني لم أحضر الوردة الحمراء. لن تراقصني".
وترك جسده يتداعى فوق العشب، ودفن وجهه بين كفيه ثم أخذ يبكي.
وتساءلت سحليةٌ رمادية تسللت بجانبه الشاب: " لِمَ يبكي؟"
وأضافت فراشةٌ رفرفت في الهواء مقتفية أثر خيوط الشمس الذهبية:" نعم، ما الذي يُبكيه؟"
وهمست زهرةٌ من زهور الربيع لجارتها: " ما يُبكيه؟"
أجابهم العندليب بنبرة حزينة: " إنه يبكي من أجل وردةٍ حمراء"
فصاحوا جميعا في صوتٍ واحد: " من أجل وردةٍ حمراء!! يا لهُ من أمرٍ مضحك"
وكانت السحلية الرمادية ممن لا يؤمنون بأقدار الحياة فيسخرون منها، فأطلقت ضحكة استهزاءٍ عالية.
أما العندليب فقد أدرك معاناة الشاب، وظلّ هادئاً في السنديانة يفكر في لغز الحب و غرابته. وفجأةً، بعد برهة، أفرد جناحيه الرماديين وحلّق كالطيف في الفضاء عابراً البستان.

وفي وسط الروض بين الأعشاب، كانت شجرةُ شوك جميلة قصدها العندليب فور لمحها، واستقرّ على غصنها المزهر وقالت: " امنحيني وردةً حمراء، وسوف أغني لكِ أجمل أغنياتي".
ولكن الشجرة هزّت رأسها قائلةً: "ورودي بيضاء كزبدِ البحر، وأكثر بياضاً من الثلج المتساقط فوق قمم الجبال. اذهب إلى أختي التي تنبُت حول الساعة الشمسية القديمة، فقد تجد عندها ما تبحث عنه ".

وحلّق العندليب مباشرة نحوالشجرة النابتة قرب الساعة الشمسية القديمة، وقال لها: "امنحيني وردةً حمراء، وسوف أغني لكِ أجمل أغنياتي".
ولكن الشجرة هزّت رأسها قائلة: " ورودي صفراء كشعر حوريةٍ تتربع عرش الكهرمان، وأكثر اصفراراً من زهرةِ النرجس قبل أن تقتلعها المناجل. اذهب إلى أختي التي تنبُت تحت نافذة حجرة الطالب الشاب، فقد تجد مبتغاك عندها".

حلّق العندليب فوراً إلى شجرة الورد التي تنبُت تحت نافذة حجرة الطالب، وقال لها: " امنحيني وردةً حمراء، وسوف أغني لكِ أجمل أغنياتي".
ولكن الشجرة هزّت رأسها قائلة: "ورودي حمراء كأقدام اليمام، وأكثر احمراراً من شعاب المرجان التي تتماوج في كهوف المحيطات. ولكن الشتاء قد جمّد عروقي، والصقيعُ مزق براعمي، والعاصفة حطّمت أغصاني، وقد لا أُنبتُ أية ورودٍ هذا العام".
فقال العندليب متوسلاً: " كل ما أريده هو وردة واحدة فقط. أما من طريقةٍ للحصول عليها؟"
فأجابت الشجرة: " هناك وسيلةٌ واحدة، ولكنها فظيعةٌ جدا حتى أنني لا أجرؤ على قولها".
فقال العندليب في لهفة: " أرجوكِ أخبريني. ولن أخاف سماعها".
أطرقت الشجرة رأسها ثم قالت: "إن كنت تريد وردةً حمراء، فيجب عليكِ أن تخلقها بألحانك تحت ضوء القمر، وتلوّنها بدماء قلبك. عليكِ أن تغني لي بينما تدفع بصدرك نحو شوكتي، طوال الليل إلى أن تنفذ الشوكة إلى قلبك، وينتقل دمك عبر الشوكة إلى عروقي".
فصاح العندليب: "الموت ثمنٌ باهظٌ لشراء وردةٍ حمراء، والحياةُ عزيزةٌ على كل نفس. إنه لمن البهجة والسعادة أن نجلس في الغابة الخضراء، ونتطلع إلى بهاء الشمس في مركبها الذهبي، والقمر في مركبه اللؤلؤي. كم هي زكيةٌ رائحة النباتات البريّة، وكم جميلةٌ هي أشجار الزهر الأزرق في الوديان. ولكن يبقى الحب أغلى من الحياة، فماذا يساوي قلبُ طائر مقارنةً بقلب إنسان؟".
ثم أفرد العندليب جناحيه الرماديين و حلق في الفضاء كطيفٍ عابر، متجها صوب البستان.
وهناك فوق العشب كان الطالب لما يزل مستلقياً كما تركه، ودموع عينه لم تجف في مقلتيه الجميلتين بعد.
وصاح العندليب : "كن سعيداً، ستحصل على الوردةِ الحمراء. سوف أخلقها بألحاني تحت ضوء القمر، وألونها بدمي. وكل ما أطلبه منك بالمقابل هو أن تبقى العاشق الأصدق. فالحب أكثر حكمةً من بحور الفلسفة، رغم حكمتها، وأقوى من القوة نفسها، رغم شدتها. هذا الحب جناحاهُ وجسده ملوّنين بلون اللهب. شفتاه كالعسل في حلاوته، وأنفاسه كالمسك في عطره".

نظر الشاب إلى الأعلى مصغياً إلى حديث العندليب، ولكنه لم يفهم ما قاله، فهو لا يفهم إلا ما يوجد في الكتب.
أما السنديانة فقد استوعبت كلام العندليب، وحزنت أشدّ الحزن فرقّ قلبها وخشعت جوارحها، لأنها كانت شديدة التعلّق بالعندليب الذي اتخذ لها عشاً بين غصونها.
وهمست قائلة: "هلاّ غنيت لي لآخر مرة. سوف أفتقدك كثيراً عندما ترحل".
وأخذ العندليب يغني للسنديانة، فكان صوته كخريرِ ماءٍ ينسكب من وعاءٍ فضي.

وعندما انتهى العندليب من الغناء، نهض الشاب وأخرج من جيبه دفتراً صغيرا وقلم رصاص، ثم أخذ يمشي في البستان ويكلم نفسه: "إن لهذا العندليب أسلوب رائع في الغناء لا يمكن إنكاره، إضافةً إلى صوته الشجيّ. ولكنني أشك في أن لديه إحساس مثلنا. أعتقد أنه كباقي أرباب الفن، يملكون الأسلوب المتميز، لكنهم يفتقرون إلى الصدق في المشاعر؛ فهذا العندليب لن يضحي بنفسه من أجل الآخرين. لا يفكّر إلا في الغناء والألحان، والجميع يعلم أن الفنانين أنانيون. ومع هذا، يجب أن أعترف بأن صوته يحمل من الجمال الشيء الكثير. وإنه لمن دواعي الأسف أن لا يكون لهذا الصوت أي معنى أو فائدة تُرجى".

ثم عاد إلى غرفته واستلقى على سريره الصغير، وبدأ يفكر في حبيبته، ثم غاب في سباتٍ عميق. وآن أضاء القمرُ السماء، طار العندليب إلى شجرة الشوك، وألصق صدره بإحدى شوكاتها. أخذ العندليب يغني ويشدو طوال الليل، والشوكة تنفذ إلى صدره، بينما القمر الهادئ استرخى في إصغاءٍ شديد لغناء العندليب. واستمرّ العندليب في الغناء بصوته الشجي الذي خالطه مزيجٌ من الفرح والألم، والشوكةُ تتابع طريقها نحو قلبه حتى بدأ ينزف بشدة.

كان أول ما غناه العندليب أغنية عن ميلاد الحب في قلب صبي وفتاة. فبدأت الشجرة تُنبت وردةً رائعة الجمال، بتلة بعد بتلة، مع كل أغنيةٍ تتبع أغنية. كانت الوردة شاحبةً في بادئ الأمر، كالضباب الذي يطفو فوق النهر، أو كلون السماء عند بزوغ الصبح، وكانت فضيةً كأجنحة الفجر. كانت كظلِ وردةٍ في مرآةٍ فضية، أو كظلِ وردةٍ منعكس على صفحة حوض ماء.

وفجأة، صاحت الشجرة في العندليب آمرةً إياها أن يدفع بصدره بقوةٍ أكبر: " ادفع بقوة أيها العندليب الصغير، قد يطلع علينا الصباح قبل أن تكتمل الوردة ". فقام العندليب بدفع صدره نحو الشوكة أكثر فأكثر، وارتفع صوته بالغناء أعلى فأعلى، منشداً أغنيةً عن مولد الهيام والصبابة في روحَي رجلٍ وعذراء.
وعندها ازداد تورّد الأوراق في الوردة، كتورّد وجه عريسٍ حين يقبّل شفتي عروسه.
ولكن الشوكة لم تصل إلى قلب العندليب بعد، فبقي قلبُ الوردةِ أبيض. شيءٌ واحدٌ يستطيع أن يُغرق قلب الوردة بالحمرة. هو دم قلبِ العندليب.
وصاحت الشجرة ثانيةً: " ادفع بقوة أيها العندليب الصغير، قد يطلع علينا الصباح قبل أن تكتمل الوردة ". فدفع العندليب صدره نحو الشوكة بقوةٍ أكبر، حتى لامست قلبه، فأطلق صيحة ألمٍ رهيبة لم يعهدها صوته من قبل.
كان الألم قاسياً أيما قسوة، فازداد صوت العندليب اهتياجاً في أغنيةٍ عن الحب الخالد الذي لا يقهره الموت، بل يوصله إلى درجة الكمال، فلا يتلاشى عند حافة القبر.
وازداد احمرار الوردة الرائعة، فاحمرّ ما بين أوراقها، واحمرّ قلبها حتى أصبح كالياقوتة. أما صوت العندليب فازداد خفوتاً ووهناً، وبدأ العندليب يخفق بجناحيه. بعدها غشّت عينيه سحابة رمادية، وأخذت صوته يخفت أكثر فأكثر حتى أحسّ بغصّةٍ في حلقه.
وبعد قليل انفجر العندليب بالغناء لآخر مرة، فاستمع القمرُ إلى أغنيته وبقيَ في مكانه في السماء حتى نسيَ موعد الفجر القريب.
واستمعت الوردةُ الحمراء إلى أغنيته، فارتعشت في نشوةٍ عارمة، ثم فتحت أوراقها لنسمات الصبح الباردة.
وحمل الصدى أغنية العندليب إلى كهوفه الوردية عند التلال، فأيقظ الرعاة من أحلامهم.
وشرعت الأغنية تعوم على امتداد النهر حتى أوصلها إلى البحر العظيم.
صرخت الشجرة في حماس: " انظر، انظر، لقد اكتملت الوردة".
ولكن العندليب لم يحرّك ساكناً ، ولم يجب. كان قد فارق الحياة و ملقى فوق العشب والشوكة مغروسةٌ في قلبه .

عند الظهر، استيقظ الطالب من نومه وفتح نافذة غرفته، فصاح في دهشة: " يا إلهي، يا لهذا الحظ الرائع!! ها هي وردةٌ حمراء. يا للروعة، لم أرَ مثلها في حياتي قط. إنها جميلة جدا حتى أنني أكاد أجزم بأن لها اسماً لا تينياً علمياً طويلا". ثم انحنى نحو الشجرة وقطفها.
ارتدى قبعته وخرج مسرعاً صوب منزل الأستاذ، يملؤه الشوق والابتهاج، حاملاً الوردة في يده. وكانت ابنة الأستاذ جالسةً عند مدخل البيت تلفّ خيطاً حريرياً أزرق على بكرة، بينما كان كلبها مستلقياً عند قدميها.
صاح التلميذ في حماسٍ شديد فور وصوله: " لقد قلتِ لي أنكِ سوف تراقصيني إن أنا أحضرتُ لكِ وردةً حمراء. معي الآن الوردة الأكثر احمراراً في العالم. ستضعينها الليلة على فستانك قُرب قلبك، وبينما نحن نرقص يا حبيبتي، ستحكي لكِ عن مدى الحب و الهيام الذي أكنه لك في قلبي " .
ولكن الفتاة قطبت حاجبيها وأجابت ببرود: " أخشى ألاّ تناسب الوردة لون ثوبي. وقد أرسل لي ابن أخ حاجب الملك بعض الجواهر، والجميع يعلم أن الجواهر ثمنها أغلى بكثير من الورود" .
فصُعق الشاب ودارت به الأرض، ثم اشتعل غضباً فقال: " أتعلمين..أنتِ ناكرةٌ للجميل" .
وقذف بالوردة على الطريق حتى وقعت قرب قناةٍ لمجاري المياه، ثم سحقها إطار عربةٍ وشتّت أوراقها.
فصاحت فيه الفتاة : " أنا ناكرةٌ للجميل؟!. يا لك من فظ، ولكن قل لي، من تكون أنت؟ إنك مجرد طالب. لا أظن أنك تملك مشبكاً فضياً لحذائك مثل ابن أخ الحاجب" .
ثم نهضت عن مقعدها ودخلت إلى المنزل.

عاد الطالب أدراجه ، و في الطريق أخذ يكلم نفسه ويقول: " ما أسخف الحب ! ، ليس له حتى نصف فائدة المنطق؛ فلا يدلّ على شيء، وإنما يحدثك دوماً بأشياء لن تحدث، ويجعلك تصدق أشياءً لا تُصدق. في الحقيقة، هذا الحب غير واقعي أو عملي، وهذا الزمن هو زمن الواقع. لقد أضعتُ وقتي، وأعتقد أنه يجدر بي أن أعود إلى قراءة الفلسفة وسوف أدرس في هذه المرة فلسفة ما وراء الطبيعة".
وهكذا عاد إلى غرفته وسحب من مكتبته كتاباً ضخماً مغبراً، نفض عنه الغبار، وأخذ يقرأ.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق