الأربعاء، 28 سبتمبر 2016

"لا تَبْكِ يا زِيزو" قصة للأطفال بقلم: د.عبير حسن

لا تَبْكِ يا زِيزو

قصة ورسوم: عبير حسن
أَخِي الصَغِيرُ عَبْدُ العَزِيز عِنْدَهُ ثَلاثَةُ أَعْوامٍ، وَهُوَ يَكْرَهُ الاسْتِحْمَام. إنهُ يَخْشَي الصَابُون. وَيَبْكِي بِمُجَرَدِ أن تَقُولَ لهُ ماما: هيا لِتَسْتَحِمَ الآن. إنهُ يَبْكِي قَبْلَ الاسْتِحْمَام، وفي أَثْنَاءِ الاسْتِحْمَام، وأَحْيَاناً أَيْضَاً بَعْدَ الاسْتِحْمَام، وَيَصْرِخُ وَيَقُول: الصَابُون.. آه.. عَينِي. مَعَ أَنَهُ يَسْتَحِمُّ بِصَابُونٍ خَاصٍّ لِلأَطْفَال، لا يُؤذِي العَيْن!
في الظَهِيرَةِ.. جَلسْتُ أُدَاعِبُ أخي الذي يُحِبُّ أن أُناديَه "زِيزو". فهو ظَريفٌ جِداً بَعِيداً عن الاسْتِحْمام.. إنهُ يَقِفُ بِجَانِبي يُقَلِدُ حَرَكَاتي التي أَقُومُ بِها.. فَأنا مُشتَرِكٌ في فَرِيقِ الكَاراتيه باِلنادي.. وَعِندَما أَعُودُ لِلمَنْزِلِ، أَتَدَربُ علي أَدَاءِ بَعْضِ الحَرَكات. فَيأتي زِيزو مُسرعاً عِندما يَراني وَهُو يَضْحَكُ، ويَقِفُ أَمامي لِيُقَلِدَنْي.. فَيفعَلُ مِثْلَما أَفعل، كَما يُرَدِدُ خَلفي الكَلِماتِ التي نَقُولُها في تَدْرِيباتِ الكَاراتيه، وَلَكِن بِطَرِيقَةٍ مُضحِكةٍ مِثْل: مِيجي.. أي يَمِين، وهَيداري.. ومَعْنَاها يَسار، هَايسوكو دَاتش.. أَي انْتِباه.. وسَرْعَانَ ما يَتَطَوَرُ الأَمْر، فَأشْتَبِكُ مَعَهُ بِلُطفٍ، ونَتَشَقْلَبُ مَعاً عَلي الأَرْضِ، وكَأَنْها مُبَاراةُ كَاراتِيه حَقِيقِيْة، والَتْي عَادَةً ما تَنْتَهي بِهَزِيمَتي وَاسْتِسْلامي، حَتى نَتَجَنَبَ بُكاءَ زِيزو. لَقَدْ أَصْبَحَ هَذا المَشْهَدُ فَقْرَةً كُومِيدِيَةً يَومِيَةً في مَنْزِلِنا، يَضْحَكُ فيها الجَمِيعُ. ولَكِنَ المُشْكِلَةَ أَنَهُ لا يُرِيدُ أن يَتَوَقَفَ أبَداً عن اللَعِب.
واليومَ بَعْدَ كُلِّ هذا الضَحِكَ والانْسِجام.. نادتْ عليهِ أُمي لكي يَسْتَحِم. وكما هو مُعتادٌ ومُتَوَقَّعٌ.. أخذَ زيزو في البُكاءِ والصُراخَ معلناً رفضَهُ للاسْتِحْمام. وفجأة خَطرتْ لي فكرة.. فقلتُ لأمي: ماما.. اترُكي لي زيزو ، سأُرافِقُه هَذِه المرة في الاستِحمام. نظر إلي زيزو نظرةً ماكرة، واسْتَمَر في الكَلامِ مُتَصَنِعَاً البُكاء: لا.. حَمَّام لا.. صَابون لا. اقْتَرَبتُ مِنه وقُلتُ له فيما يُشْبِه السِر: هيا يا زيزو.. سَنَلْعَبُ مُباراةً داخِلَ البانيو المُمْتَلِىءِ بِالماء.. ثُم قُمت بأداءِ أحدِ حَركاتي المَشْهورةِ في الكاراتيه. ضَحِك زيزو وظَهَرَتْ أسنَانُه التي لم تَكْتَمِلْ.. فأمسَكْتُ بيدهِ وتَوجَهنا إلي الحَمَّام .
بَعدَ فَترةٍ قَصيرةٍ مِن الزَمنِ.. خَرَجَ زيزو مِن الحَمَّامِ جَميلاً نَظيفاً، يُمسكُ بِيَّدِي في سَعادَة.. فلا بُكاءَ، ولا شَكوى مِن أثرَ الصَّابونِ في عَيْنَيهِ.
وفي غُرْفَتِنا.. وَقَفَ زيزو أمامي مُستعداً ليفْعَلَ مِثلَما أَفْعَل.. ويُصدِر أصْوات مِثلي فَيُرَدِد خَلْفي: هي.. ها.. هو.. هايسوكو داتشي.. وعِندما انتهتْ مباراتُنا معاً، اقْتَرَبَ مِني زيزو وَهَمَسَ في أُذُنِي قائِلاً: مَتى سَأسْتَحِمُّ مرةً أُخْرَي؟
عَجِيبٌ أمرُ زيزو! الآن يُحِبُّ الاسْتِحْمامَ! إنه أخِي الصَغِيرُ الذي أُحِبُّه.

الأربعاء، 21 سبتمبر 2016

"حكايات.. دانة.. ودودى.. ودوللى " قصة للأطفال بقلم: د.عبير حسن

حكايات.. دانة.. ودودى.. ودوللى
قصة ورسوم: عبير حسن
هن ثلاث صديقات لا يفترقن أبداً، يدرسن معاً، يمرحن معاً، وأحياناً يتشاجرن معاً، ويقطن في عمارة واحدة معاً، وهم فى صحبة دائمة.
في عصر أحد أيام الصيف الحارة، جلست دانة ودودي ودولي علي درجات سلم العمارة بجوار شقة دودي.
قالت دوللي: ما هذا الملل! لم يعد هناك ما نقوله أو نفعله.. لقد أصبحت الأجازة مملة.
فقالت دانة ضاحكة: وهل هناك أجازة مملة؟! إنها الأجازة يا صديقاتي. ثم من قال أنه لم يعد لدينا ما نقوله..
قالت دودي: دوللي معها حق، أنا أيضاً أشعر بالملل.
قالت دانة: إذاً أنا دانة قاهرة الملل.. عندي مقترح لطيف..
أري أن يفترق ثلاثتنا لمدة ساعة واحدة، تذهب فيها كل واحدة منا إلي شقتها، فتكتب قصة أو موقفاً جميلاً حدث معها ذات مرة، ولم تحكي لنا عنه من قبل. وأن تقسم القصة إلي أجزاء بعدد الحروف التي يتكون منها اسمها، كل جزء يبدأ بحرف حسب ترتيب موقعه من اسمها.. ثم نعود إلي هنا بعد انتهاء الساعة، لنعرف ماذا كتبنا جميعاً.
أنا مثلاً ستكون قصتي من أربعة أجزاء فقط، لأن اسم دانة مكون من أربعة حروف فقط.. الدال، الألف، النون، والتاء المربوطة. هيا يا صديقاتي.. تحمسن للأمر.. ولنبدأ من الآن.
وبعد مرور ساعة من وقت البداية.. اجتمع ثلاثتهن من جديد، علي نفس درجات السلم بجوار شقة دودي التي قالت:
بما أنكِ أنتِ يادانة صاحبة الفكرة.. ابدئي أنتِ أولاً..
قالت دانة:حسناً.. إن أول حرف من اسمى هو حرف الدال..
داخل القفص الأزرق المعلق فى شرفة منزلنا.. كان هناك عصفور برتقالي اللون، صغير وجميل، أنا وعصفوري البرتقالي أصدقاء. أذهب إليه بمجرد أن أستيقظ في الصباح، وأضع له الماء والطعام. فيغرد لي بصوته العذب الرقيق.
حرف الألف..

أحضرت له الماء والطعام مثل كل مرة، فتحت القفص الأزرق، ومددت يدي أداعبه.لكنه لم يتجاوب معي، وبدا حزيناً، ولم يشأ أن يغرد بصوته الجميل كما عودني كل صباح!
حزنت بشدة، وقلت لنفسي:إنه يخاصمني لأنني انشغلت عنه فى اليوم السابق، بعد أن أمضيت اليوم كله معكن، ولم أذهب إليه بين الحين والآخر.
حرف النون..
نادانى بابا من غرفة مكتبه.. ذهبت إليه متثاقلة وحزينة.. فقال مداعباً: ماذا بكِ يا دانة؟ لا أسكت الله لكي صوتاً! اقتربت منه وأمسكت بيده وقلت له: تعالي لتري بنفسك! وأمام قفص عصفوري البرتقالي الجميل قلت له: أنظر يا بابا.. إنه يخاصمنني ولا يريد أن ينظر إلي.. إنه حزين، وأنا أيضاً حزينة.
حرف التاء..
تأكد والدي من صحة ملاحظاتي، وأقر بأن العصفور بالفعل يعاني من مشكلة ما ، لكنه قال: لست المسئولة عن ذلك يا دانة. هو حزين يا حبيبتي لأنه وحيد، ويحتاج شريك لحياته. لا تقلقي حبيبتي، سأحل المشكلة بنفسي.
تغيب بابا عن البيت لمدة ساعة تقريباً. عاد بعدها وهو يحمل في يده قفصاً آخر صغير، إنه عصفور آخر يشبه عصفوري الجميل. أحضره بابا ليؤنس وحدة عصفوري.. هكذا أفهمني بابا! ولم يمضي سوى يوم واحد، حتى عاد عصفوري يغرد من جديد في سعادة. وغرد معه أيضاً صديقه الجديد.. ولم يعد عصفوري البرتقالي وحيد.
ابتسمت دولي وقالت: رائع يا دانة.. لماذا لم تحكي لنا قصة صديقك هذا ذو اللون البرتقالي من قبل؟!
قالت دودي: والآن.. حان دوري أنا، والحرف الأول من اسمى هو حرف الدال..
دائماً ما أسمع عن وفاء الكلب. لم أكن أفهم أن الحيوانات يمكن أن تكون لديهم صفات مثلنا! لكن حدث ما جعلني أغير رأي..
تعلمن يا صديقاتِ العزيزات أن جدي لوالدي لازال يعيش في القرية التى ولد وعاش بها، ولم يغادرها قط، إنه يحب بيته جداً ويرفض أن ينتقل للعيش في أي مكان آخر. وقد بني جدي في الفناء الخلفي للمنزل مجموعة من الحظائر التي يربي فيها بعض الحيوانات والطيور المنزلية التي يرعاها بنفسه، وبالقرب من بوابة المنزل، صنع جدى بنفسه بيت خشبي أنيق لكائن عزيز عليه جداً.. إنه ( تيكا ) كلب جدى الوفي ذو اللون البني!
حرف الواو..

وفي يوم من الأيام، مرض جدي مرضاً شديداً، وأوصى الطبيب بعمل فحوصات متعددة.. ومن ثم، اصطحب والدي جدي عائداً إلى المدينة.. حيث بقى جدي فترة من الوقت برفقتنا، حتى تُجرى له الفحوصات اللازمة ونطمئن على
صحته، وقد كان ذلك شيئاً قاسياً على جدي الحبيب، الذي لا يرتاح إلا في بيته.. هكذا يقول دائماً.
حرف الدال..
دأب الكلب تيكا بعد أن غادر جدي المنزل، على الذهاب كل صباح إلى غرفة جدي ينتظره، فيجلس في هدوءٍ أمام الباب. وعبثا ًحاولت " أم السعد " مديرة المنزل أن تجعله يتحرك بعيداً عن باب الغرفة. لقد أخبرتنا " أم السعد فيما بعد " أن تيكا كان يرفض الطعام والشراب، وبدا واضحاً أنه لا يهتم لما يدور حوله، وأنه لم يعد تيكا المرح الذي نعرفه.
حرف الياء..
يقود والدي السيارة وبجانبه جدي عائداً إلى القرية.. كنا جميعاً مسرورين لأن جدي الحبيب قد تجاوز أزمته الصحية بسلام. وطوال الطريق لم يتوقف جدي عن الحديث عن افتقاده لمنزله ولأم السعد، وتيكا والبط والدجاج والأرانب. وما أن توقفت السيارة أمام المنزل، وهم جدي بالنزول، حتى رأينا تيكا يندفع لخارج المنزل باتجاه جدي..وأخذ يلف ويدور حوله ولا يتوقف، فداعبه جدي قائلاً: لماذا يا تيكا أراك ضعيف هكذا.. ألم تكن أم السعد تطعمك في غيابي؟ حرك تيكا ذيله ، ورفض أن يترك جدي طيلة اليوم. وعند الليل، ذهب جدي
لينام، فجلس تيكا أمام غرفته رافضاً أن يغادر مكانه،فقال جدي: دعوه.. فهو يخشى أن أبتعد وأتركه من جديد. إنه صديق وفي!
قالت دانة: لقد أحببت الكلب تيكا، وأتمني أن أراه، وأمسح بيدي علي رأسه.
قالت دوللى:انتبهوا يا صديقاتي، فقد حان دوري الآن.. وأول حرف من اسمى مثلكم أيضاً..
إنه حرف الدال..
دعوني أروى لكن هذه الحكاية الغريبة: إن تعلق الكلب تيكا بجد دولي يبدو مألوفاً إلى حدٍ كبير فى عالم الحيوان. فلقد سمعت كثيراً عن وفاء الكلب للإنسان. أما حكايتي، فلم أكن لأصدقها إن لم أرها بعيني. أنتن طبعاً تعرفن منزلي جيداً.. ودائماً ما تصفونه بالحديقة، فاللون الأخضر يملأ المكان. فلا يوجد مكان في منزلنا،إلا وبه أنواع من النباتات المختلفة، التي يرعاها والدي بنفسه، إنه يعاملها برفق وحنو ويدللها كطفل صغير، حتي أنه يسمعها موسيقي من حين لآخر! ودائماً يقول: يا أولاد.. النباتات جزء مهم من هذا البيت.. إنها تشعر مثلنا!
حرف الواو..
وذات يوم سافر والدي خارج البلاد في مهمة عمل وغاب عن المنزل لمدة شهر كامل. كانت هذه أول مرة يغيب كل هذه المدة.حاولنا أن نهتم بالنباتات الموجودة بالمنزل كما كان والدي يهتم بها. ومع ذلك لم تستجيب النباتات لمحاولاتنا. فقد أخذت تذبل تدريجياً، ولاحظ ذلك كل من يزورنا بالمنزل، وبات التساؤل الأكثر تكراراً بيننا هو: ماذا حدث للنباتات؟
حرف اللام..
لم نشأ أن نخبر والدي عما آل إليه حال النباتات بالمنزل وهو بعيد عنا، وقررت أمي أن تستعين بأخصائي في معالجة النباتات. وبالفعل.. أتى الرجل المختص بشؤون النباتات المنزلية إلينا، وقام بتفحصها، ثم تحدث بعدها معنا قائلا: يجب أن تعرفوا أن كل نوع من النبات يحتاج إلى عناية خاصة. وإلى شخص لديه قدر كبير من المعرفة بها، وكثير كثير من الحب لها. إنها تحتاج لصديق.
حرف الياء..
يعتقد كثير من الناس أن النبات لا يحتاج منا إلا إلى أربعة أشياء أساسية فقط: ضوء، ماء، وهواء، وتربة جيدة. لكني أيقنت بعد عودة أبي من السفر، ورأيت أن النباتات داخل منزلنا قد استعادت رونقها ونضارتها في ظل رعاية أبي المستمرة
لها، أنها تحس بنا وتصادقنا، وتستمتع برعايتنا لها، بل وتفتقد من يرعاها بحب إذا ما غاب عنها. لقد تعلمت منذ ذلك الحين أن النبات كائن حى يحس بنا، ويتفاعل معنا. وصديق جميل يمنحنا البهجة والجمال، وأنه قد يتألم ويذبل من الإهمال.. ولكن في صمت!
قالت دانة ودودي معاً: أحسنت يا دولي..
قالت دولي: بل أحسنا جميعاً.. والفضل لكِ يا دانة. إن تجربة الكتابة كانت حقاً ممتعة. لقد استمتعنا بوقتنا.
قالت دانة: إذاً.. لدي مقترح جديد.
ضحكت دودي ودوللي وهما تقولان.. أتحفينا به يا ملكة الاقتراحات.
قالت دانة ولقد لمعت عيناها: لما لا نواظب على كتابة هذه القصص، نفعل ذلك مرة واحدة في كل شهر.. وفي خلال خمسة أشهر فقط ستتجمع لدينا خمسة عشرة قصة.. نجمعها معاً، وربما استطعنا نشرها فى كتاب بمعاونة أهلنا، ونكتب على الغلاف..حكايات..دانة ودودي ودوللي!
قالت دوللي: أجمل شيء أن اسماءنا ستكتب بجوار بعضها، وعلي كتاب واحد..
وقالت دودي: صديقاتي الجميلات.. أُحبكم جداً جداً. وسأبقي أُحبكم بعد أن نصبح كاتبات شهيرات أيضاً.
وتعانق الجميع في فرح وسعادة.

"السر العجيب" قصة للأطفال بقلم: د. طارق البكري

السر العجيب
د. طارق البكري
في بيت جدي غرفة تظل مغلقة باستمرار.. سألت جدي عن هذه الغرفة فلم يجبني..
سألت أمي وأبي فقالا إنهما لا يعرفان ما بداخلها. وأخبراني بأنها غرفة خاصة بجدي.. يجلس فيها ساعات طويلة.
رجوت جدي السماح لي بدخولها.. لكنه رفض.. كررت الرجاء مرات ومرات.. والإجابة كانت واحدة..
وفي أحد الأيام فاجأني جدي بقوله: بما أنك راغب في دخول الغرفة.. فسأعطيك مفتاحها عندما تكبر.. فأجبته على الفور: لكني كبير.. بعد شهر واحد سيصبح عمري عشر سنين.
ضحك جدي حتى سقطت أسنانه على الأرض. ثم قال: لا بأس.. لا بأس.. بعد شهر إذن.
ذهبت إلى بيتنا وأنا أحلم بتلك الغرفة، وصرت أفكر في محتوياتها، وأعد الأيام.. يوما بعد يوم.. بقي أسبوعان.. أسبوع.. يومان..
وفي صباح عيد ميلادي العاشر استيقظت مبكرا جدا، ولبست أحلى ثيابي، وذهبت مسرعا إلى بيت جدي المجاور لبيتنا، وما إن فتح جدي الباب حتى قلت له: ها قد أصبح عمري عشر سنين.. هيا أعطني مفتاح الغرفة.. ضحك جدي هذه المرة أكثر من المرة السابقة، لكنه لم يكن يضع أسنانه، وقال بكلمات مكسرة: أنت طفل عنيد.. ألا تعرف الصبر؟
ثم قال جدي بمرح: لقد كنت أعلم أنك ستأتي.. هذا هو المفتاح.
سرت باتجاه الغرفة، وسمعت دقات قلبي من شدتها، فتحت الباب بهدوء، ودخلت الغرفة..
وقفت في الوسط، فوق بساط أخضر كبير، وصرت أدور.. وأدور.. أتأمل جدرانا من الكتب مصفوفة بعناية وترتيب..
لحقني جدي.. وقال: لم أعد أستطيع الركض مثلك، أظنك مستغربا.. لقد جمعت هذه الكتب منذ أن كنت في سنك، هل تريدها.. أنا أعلم أنك تحب القراءة.. إنها لك منذ الآن.. ربما تفعل بها ما يجب أن تفعله.. وخرج جدي من الغرفة وتركني وحيدا..
بقيت ساعات أتنقل من كتاب إلى كتاب.. حتى أنهكني التعب، وجلست في ركن جانبي وأسندت رأسي بكتاب كبير.
أغمضت عيني قليلا.. بعد دقائق.. سمعت أصواتا غريبة.
فتحت عيني فرأيت مجموعة من الكتب تتجه نحوي.. شعرت بالخوف الشديد وأغلقت عيني بسرعة..
اقتربت الكتب مني وسمعت صوتا وقورا يقول: منذ زمن لم نعد نرى أحدا من الناس، لقد سجننا صاحبنا في هذه الغرفة.. ما أجمل هذا الصبي!
فقال كتاب آخر: معك حق.. إنه مجتهد أيضا، لقد قرأ كتبا كثيرة في وقت قليل.
وسمعت صوت كتاب عجوز: لقد كنا في الماضي ندور من يد إلى أخرى، ولم نكن نتعب أبدا أو ننزعج.. والآن أصابنا الملل.. إنني أكاد أختنق من هذه الغرفة.
هنا، قال كتاب يبدو من صوته أنه في مرحلة الشباب: كم أتمنى أن يكون هذا الطفل الجميل وريثا لجده.. فهذه أول مرة يسمح لأحد بزيارتنا..
تحركت قليلا فأسرعت الكتب إلى أماكنها، قمت من مكاني وخرجت لأستأذن جدي بنقل هذه الكتب العظيمة والحكيمة إلى مكتبة عامة لينتفع بها جميع الناس..
رحب جدي بالفكرة وقال: كم تمنيت أن أكون مثلك..

الخميس، 15 سبتمبر 2016

"أين ينتهي البحر؟" قصة للأطفال بقلم: د. طارق البكري

أين ينتهي البحر؟
د. طارق البكري
كان عقلي الصغير يوهمني أن البحر ينتهي عند منتهى النظر، وكنت أظن واهماً أنّ الشمس وقت المغيب تغسل وجهها بماء البحر، وتستريح بعد ذلك من عناء عملها طوال النهار فتنام ليلاً حتى مطلع الفجر.. اعتقدت طويلاً، ولم أسأل الناس متحققاً من صحة اعتقادي، ربما لأنني أحب دائما الاحتفاظ بخيالاتي «المتحمسة» كيلا تدوسها خيول الحقيقة.. اعتقدت - واهماً أيضاً - أنّ خط نهاية البحر الوهمي في عقلي يسكن سداً صلباً، يحول دون تسرب الماء من البحر فلا يتحول الى وادٍ سحيقٍ عميقٍ.. سداً يقف كالجبل الشامخ، يحجز الماء عن تدفقه... ظننت أن العالم ينتهي عند هذه النقطة.. وأن الماء لو تسرب من فجوة ما لسال في الفضاء.. ياااه.. يا له من خيال مضحك.. ومع ذلك لم أكن أريد تغيير «الحقيقة».. لكني اكتشفت - غصباً عني - أنّ الأحلام شيء و«البحر» شيء آخر..
****
عندما اصطحبني أبي في رحلة بحرية بإلحاح شديد مني.. نظرت إلى بعيد بعيد.. وكلما أوغلت السفينة في أعماق البحر، ابتعد السد الوهمي عني حتى كاد يتلاشى.. وكنت أظنني أقترب منه.. لم أجرؤ على البوح بهذا الوهم «الحقيقة».. وددت الصراخ بأعلى صوت.. آمر البحارة بأن يقودوا السفينة نحو «السد»..
كانت ضربات قلبي تشتد بارتفاع السفينة وهبوطها..
صعدت الى أعلى مكان في السفينة..
ساعدني أحد البحارة لأصل الى منارة السفينة... أعطاني منظاراً كبيراً.. اعتقدت أخيراً أني سأشاهد نهاية البحر.. أعتقد البحار أنني سعيد بما أراه من بحر عظيم.. صرت أبحث في كل اتجاه.. أبحث عن نهاية البحر، لا عن هيبته وجلاله.. تخيّلت في عقلي الصغير كيف يمكن للبحر أن يتجمد في نقطة ما من الأرض، ويصبح صلباً كالصخر.. وفيما بعد اكتشفت وهم طفولتي.. أحلام نهايات البحر.. وحزنت عندما اكتشفت: براءة الأحلام من حقيقتها..
لكن بعض أحلامي الطفولية تحققت.. رضيت من بقايا الطفولة الساحرة.. علمت أنّ في الأرض قطعاً من بحر متجمد.. رأيت بعينيّ كيف يصبح البحر جامداً كالصخر (حقا حقا)؟. عرفت أنّ هناك مناطق شاسعة متجمدة تماماً..
وأنّ الحرارة عند طرفي الأرض في شمالها وجنوبها وما يحيط بنقطة ارتكازها التي نراها في مجسمات أرضية، تهبط بشكل مخيف، ويصبح ميزان الحرارة دائما تحت الصفر بعشرات الدرجات.. رأيت كيف يصبح هذا البحر الهادر قطعة من الأرض..؟ وكيف يسير الناس بمراكب متزحلقة تجرها كلاب فوق ماء متجمد.. وهناك يحفر صيادون «البحر».. نعم.. يشقونه بفأس أو منشار، لا ليغرسوا شجرة بل ليرموا خيوط صيودهم الدقيقة وفي رأسها حديدة مسننة عليها شريحة سمك شهية، تجذب رائحتها الأسماك من أعماق بحر متجمد في قمته.. سائل في قعره.. تخيّلت في عقلي - الذي ما زال يحلم - كيف يستقرّ الجامد فوق متحرك؟ وكيف يحفظ البارد الدافئ؟ ويثبت ناس ويسيرون بهدوء وسكون واطمئنان فوق جليد يخفي أمتاراً من أعماق مائية المتحركة..
دهشت أكثر عندما رأيت جبالاً بيضاء.. جبالاً ناصعة.. ودهشت أكثر وأكثر عندما علمت أنّ هذه الجبال الضّخمة ليست سوى قمماً لجبال مخفية.. وأنّ ما في البحر منها ما هو أضخم بمرات من قممها الظاهرة.. ولاحظت أنّ سكان القطب المتجمد بيوتهم من صخر مائي متجلد.. وكذلك أثاث بيوتهم.. عجبت كيف أنّ بيوتهم هذه مصنوعة من قطع ثلج مرصوصة بدقة بالغة، وبطريقة عجيبة، تجعل البيت دافئاً من الداخل، فلا يتسلل برد الى ساكنيه.. وكأنهم يرددون قول الشاعر العربي القديم: وداوني بالتي كانت هي الداء..
درست في مدرستي بعد ذلك أنّ السّحب العظيمة التي نراها عادة في فصل الشتاء، عبارة عن ماء متجمع في طبقات الجو العليا.. تنقله الرياح الى حيث أمرها الله.. لتُسقط الماء.. يبقى على حاله أو يتحول برداً أو ثلجاً.. أدركت أشياء كثيرة لم أكن أعرفها.. وعلمت أنّ الهواء الذي يدخل في رئتيّ يحوي هو أيضاً كمية كبيرة من ماء.. وأنّ جسمي الذي أعيش فيه كان في الأصل ماءً وتراباً.. ذهب التراب بأصله وشكله وبقي الماء المتغلغل في تفاصيل الجسد.. من لحم وعظم ودم.. فلا توجد خلية حية بغير ماء.. وقد كان العرب قديماً يقولون لمن مات: «ذهب ماؤه»، وهذا يعني أنّ الماء سرّ الحياة.. ألم يقل الله تعالى: (وجعلنا من الماء كل شيء حي)؟ وعلمت أن الماء هي الحياة نفسها.. حتى الدماء التي تسري في أنحاء الجسم اذا جفت وذهب ماؤها لا يبقى غير ذرات حمراء باهتة اللون.. وكنت ألاحظ ذلك إذا جرحتُ نفسي أثناء لعبي مع أقراني الصغار.. ومثل هذه عصائر الفاكهة، لو تركتُ في كأس عصيراً حتى جف تماماً لَمَا بقي غيرُ بقايا ملونةٍ في قعر الكأس.. وقد لاحظت أن أمي تضيف إلى الحليب المجفف أضعافاً من حجمه ماء ليصبح حليباً سائلاً أشربه..
****
وعلمتُ أنّ الإنسان يستطيع البقاء حياً أسابيع طويلةً من دون أن يأكل لقمة واحدة، لكنّه يموت إذا لم يشرب ماء لأيام قليلة وربما لساعات، كما أن الإنسان يستطيع أن يحيا على لقيمات بسيطة طوال عمره لكنه لا يستغني عن كمية وافرة من الماء ليشربها يومياً.. ورأيت المريض الذي لا يستطيع تناول الطعام والشراب يقومون بحقنه بمصل في شرايينه، وهذا المصل عبارة عن ماء وبعض المغذيات.. ورأيت أيضا حرص الناس الشديد على الماء في البلاد التي ليس بها ينابيع وأمطار.. رأيتهم كيف يصنعون من ماء البحر المالح ماء حلواً طيب المذاق.. رأيت الينابيع على أنواعها.. الصافي البارد الرقراق، الفوار الحار، المعدني الأحمر مثل حديد مهترئ.. علمت أن في أعماق البحر ينابيع كثيرة، وفي جوف الأرض أنهاراً لا تعد، وفي الجبال بين الصخور مخابئ مياه عجيبة..
****
لم أكن لأصدق أن مياه البحر التي أراها واحدة متصلة قد تكون في بعض الأماكن من البحار أو المحيطات مياها متعددة.. وبحارا منفصلة.. يحدها جدار مائي وهمي حقيقي، لا يمكن للعين أن تراه بوضوح.. فالمياه متلاصقة متلاحمة، ولهذا أسماك ولذلك أسماك.. للأول حرارة وللثاني حرارة مختلفة.. ومواصفات مختلفة.. لم أصدق كما قلت في أول الأمر.. ولكنّها حقيقة أقرب الى حلم.. وعلمت أن الكرة الأرضية هي في الواقع كرة مائية.. فالماء يشكل أكثر من ثلثي الأرض.. واليابسة ليست سوى جزيرة تشكل الثلث فقط او أقل.. فأدركت أن الماء هو الذي يحمل الأرض وليست الأرض هي التي تحمل الماء.. وعرفت أن عمق الأرض يسيل.. وأن اليابسة تسبح على بحر ملتهب.. يخرج إلينا من حين لآخر من فوهات براكين نراها في العالم..
****
ورأيت أيضا أن البحر في حقيقته ثائر.. لا كما يبدو هادئاً وديعاً.. وقد شاهدت - وشاهد العالم مثلي - ما حدث في شرق آسيا الجنوبي يوم اكتسح الماء أعالي الجبال، في مشهد قلما يتكرر، سمي حينها بكارثة تسونامي.. ورأيت فيضانات عجيبة في الفلبين وسريلانكا والهند وأعاصير هوجاء في أنحاء متفرقة من العالم، حيث تنقض رياح مصحوبة برعود ومياه جارفة تترك الأرض خراباً ودماراً..
****
ليس هذه فقط.. بل علمت أنّ ماء في زمن بعيد بعيد تحول الى فضاء أغرق الأرض كلها ولم يبقِ غير سفينة واحدة عليها بعض أجدادنا المؤمنين الذين أبقوا على الأرض بشرا، ولولاهم لغرق الناس جميعاً، كما تقول قصة النبي نوح عليه وعلى نبينا السلام... وبعد ذلك كله... ما زلت أحلم بأن للبحر آخر.. ركبت سفناً وقطعت بحاراً من شطآن الى شطآن.. لكني ما زلت أحلم بأنّ للبحر نهاية.. لكن، أين ينتهي البحر؟ ما زلت أحلم..